لقد مر بنا أن مصر كانت جزءًا من إمبراطورية الإسكندر التي اقتسمها قواده بعد وفاته ، وأنه بعد حروب دامت أربعين عامًا بين القواد المختلفين ، تمخض عن هذا الصراع ظهور ثلاث ممالِك هينيسية قوية ، وهي مقدونيا وسوريا ومصر ، كان لعواهلها أغراض وأطماع يريدون تحقيقها .
ولذلك رأى البطالمة الأوائل ضرورة تكوين جيش وأسطول قويين يمكنانهم من الذود عن حياض مملكتهم ومن تحقيق أغراضهم. كما رأوا سلامتهم في الاعتماد إلى أقصى حد على المقدونيين والإغريق وأشباههم في تكوين الجيش والأسطول.
ولما كان عدم استقرار الحالة في مصر من خلال القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد بسبب سوء الحكم الفارسي وثورات المصريين على هذا الحكم، قد أدى إلى اضطراب الإدارة وتدهور الزراعة والصناعة والتجارة، وكانت مشروعات البطالمة الخارجية تتطلب نفقات طائلة، لم يكن في استطاعة حال مصر الاقتصادية ـ على ما كانت عليه إذ ذاك ـ توفيرها، فقد كان ضروريًا أن يعاد تنظيم شئون مصر الإدارية والاقتصادية ـ وكان طبيعيًا أن يعتمد في ذلك على رجال إغريق ورءوس أموال إغريقية.
ولما كان البطالمة يعتبرون أنفسهم خلفاء الإسكندر الأكبر، وكان من أهم ما عني به الإسكندر نشر الحضارة الإغريقية بين ربوع الشرق، وكانت حضارة الناس في ذلك العصر تقاس بمقدار حظهم من تلك الحضارة، فقد كان طبيعيًا أن يكلأ البطالمة برعايتهم حضارة الإغريق ويعملوا على نشرها في مملكتهم، ولا سيما أنها كانت حضارة العناصر التي اعتمدوا عليها أكثر من غيرها في تشييد صرح ملكهم. لكنه يجب أن نلاحظ أن البطالمة لم يفرضوا تلك الحضارة على المصريين، لأنهم وجمعوا نصب أعينهم احترام عادات المصريين وتقاليدهم.
وإزاء حاجة البطالمة الملحة إلى الإغريق في كل مشروعاتهم سواء الداخلية منها أم الخارجية، فإن ملوك مصر الجدد فتحوا أبوابها على مصاريعها للإغريق ووالوا عليهم المنح والامتيازات، فهرعوا إليها زرافات ووحدانا، وأعقبهم كثيرون من سكان آسيا الصغرى وسوريا وفلسطين، وإذا أفنا إلى ذلك العبيد، الذين أسروا في الحروب أو استحضروا من آسيا أو إفريقيا، أمكننا أن نتخيل الخليط الذي كان يتكون منه العنصر الأجنبي في مصر البطلمية.
ولا ريب في أن مصر قد غدت منذ الفتح المقدوني مملكة هينيسنية، إلا أنها كانت قبل كل شيء، بلدًا يعتز بحضارته الفرعونية وبنظمه الموروثة، وإذا كانت قد وفدت على ضفاف النيل فئة كبيرة من الأجانب، فإنهم كانوا أقلية ضئيلة بالنسبة إلى أهل البلاد، الذين استمروا يعيشون على نحو ما كانْ يعيش أجدادهم من قبل. فإذا كان البطالمة قد شملوا الإغريق بعطفهم، فقد كان لزامًا عليهم ألا يغفلوا المصريين كلية من حسابهم.
ومنذ انتصر بطليموس الأول على برديكاس كان البطالمة يعتبرون أنفسهم سادة مصر بحق الفتح، ولكن لكي يكون سلطاتهم دائمًا وسيادتهم راسخة، رأوا ضرورة كسب ولاء المصريين والأجانب، فقد كانت سياستهم ترمي إلى تكوين مملكة قوية غنية، شعارها الحضارة الإغريقية، ودعامتها أبناء مقدونيا وبلاد الإغريق ومصر. ولكي يفوز البطالمة بولاء العناصر المختلفة؛ التي كان يتكون منها سكان مصر إذا ذاك، لجأوا إلى وسائل شتى كان في مقدمتها استغلال المعتقدات الدينية السائدة بين رعاياهم. ولذلك، فإنه عند الكلام عن سياسة البطالمة الداخلية يجب البدء بمعالجة سياستهم الدينية، لأنها كانت من أهم الأسس التي أقاموا عليها السلطة المركزية.
الله ينور عليك يا محمود شغلك جميل و رائع تابع المسيرة
ردحذفالعفو يا مستر
ردحذف