الاثنين، 25 مايو 2009

عمر المختار




مولده ونسبه ونشأته وشيوخه

ولد الشيخ الجليل عمر المختار من أبوين صالحين عام 1862موقيل 1858م، وكان والده مختار بن عمر من قبيلة المنفة من بيت فرحات وكان مولده بالبطنان في الجبل الأخضر، ونشأ وترعرع في بيت عز وكرم، تحيط به شهامة المسلمين وأخلاقهم الرفيعة، وصفاتهم الحميدة التي استمدوها من تعاليم الحركة السنوسية القائمة على كتاب الله وسنة رسوله e .

توفي والده في رحلته إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه السيد أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور الواقعة شرق طبرق) بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد، وتولى الشيخ حسين الغرياني رعايتهما محققاً رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم الحق عمر المختار بالمعهد الجغبوبي لينضم إلى طلبة العلم من أبناء الأخوان والقبائل الأخرى.

لقد ذاق عمر المختار - رحمه الله - مرارة اليتم في صغره، فكان هذا من الخير الذي أصاب قلبه الملئ بالإيمان وحب الله ورسوله e حيث التجأ إلى الله القوي العزيز في أموره كلها، وظهر منه نبوغ منذ صباه مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء، والفقهاء والأدباء والمربين الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين ليعدوهم لحمل رسالة الإسلام الخالدة، ثم يرسلوهم بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وافريقيا لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه الرفيعة ومكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه، والحديث والتفسير ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم، السيد الزروالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبدالله الظاهري المدني وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة، وكان يقوم بما عليه من واجبات عملية أسوة بزملائه الذين يؤدون أعمالاً مماثلة في ساعات معينة إلى جانب طلب العلم وكان مخلصاً في عمله متفانياً في أداء ماعليه ولم يعرف عنه زملاؤه أنه أجل عمل يومه إلى غده وهكذا اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعاً، وكان الأساتذة يبلغون الإمام محمد المهدي أخبار الطلبة وأخلاق كل واحد منهم، فأكبر السيد محمد المهدي في عمر المختار صفاته وما يتحلى به من خلال، وأصبح على إلمام واسع بشئون البيئة التي تحيط به وعلى جانب كبير في الإدراك بأحوال الوسط الذي يعيش فيه وعلى معرفة واسعة بالأحداث القبلية وتاريخ وقائعها وتوسع في معرفة الأنساب والارتباطات التي تصل هذه القبائل بعضها ببعض، وبتقاليدها، وعاداتها، ومواقعها، وتعلم من بيئته التي نشأ فيها وسائل فض الخصومات البدوية ومايتطلبه الموقف من آراء ونظريات، كما أنه أصبح خبير بمسالك الصحراء وبالطرق التي كان يجتازها من برقة إلى مصر والسودان في الخارج وإلى الجغبوب والكفرة من الداخل، وكان يعرف أنواع النباتات وخصائصها على مختلف أنواعها في برقة، وكان على دراية بالأدواء التي تصيب الماشية ببرقة ومعرفة بطرق علاجها نتيجة للتجارب المتوارثة عند البدو وهي اختبارات مكتسبة عن طريق التجربة الطويلة، والملاحظة الدقيقة، وكان يعرف سمة كل قبيلة، وهي السمات التي توضع على الإبل والأغنام والأبقار لوضوح ملكيتها لأصحابها، فهذه المعلومات تدل على ذكاء عمر المختار وفطنته منذ شبابه

وصف عمر المختار :

كان عمر المختار متوسط القامة يميل إلى الطول قليلاً، ولم يكن بالبدين الممتلئ أو النحيف الفارغ، أجش الصوت بدوي اللهجة، رصين المنطق، صريح العبارة، لايمل حديثه، متزن في كلامه، تفتر ثناياه أثناء الحديث عن ابتسامة بريئة، أو ضحكة هادئة إذا ما اقتضاها الموقف، كثيف اللحية وقد أرسلها منذ صغره، تبدو عليه صفات الوقار والجدية في العمل، والتعقل في الكلام والثبات عند المبدأ وقد أخذت هذه الصفات تتقدم معه بتقدم السن

تلاوته للقرآن الكريم وعبادته:

كان عمر المختار شديد الحرص على أداء الصلوات في أوقاتها وكان يقرأ القرآن يومياً، فيختم المصحف الشريف كل سبعة أيام منذ أن قال له الامام محمد المهدي السنوسي ياعمر (وردك القرآن) وقصة ذلك كما ذكرها محمد الطيب الأشهب، أنه استأذن في الدخول على الامام محمد المهدي من حاجبه محمد حسن البسكري في موقع بئر السارة الواقع في الطريق الصحراوي بين الكفرة والسودان وعندما دخل على المهدي تناول مصحفاً كان بجانبه وناوله للمختار وقال : هل لك شيء آخر تريده فقلت له ياسيدي أن الكثيرين من الأخوان يقرأون أوراداً معينة من الأدعية والتضرعات أجزتوهم قراءتها وأنا لا أقرأ إلا الأوراد الخفيفة عقب الصلوات فأطلب منكم اجازتي بما ترون فأجابني t بقوله: (ياعمر وردك القرآن) فقبلت يده وخرجت أحمل هذه الهدية العظيمة (المصحف) ولم أزل بفضل الله احتفظ بها في حلي وترحالي ولم يفارقني مصحف سيدي منذ ذلك اليوم وصرت مداوماً على القراءة فيه يومياً لأختم السلكة كل سبعة ايام ، وسمعت من شيخنا سيدي احمد الريفي أن بعض كبار الأولياء يداوم على طريقة قراءة القرآن مبتدئاً (بالفاتحة) الى (سورة المائدة) ثم الى (سورة يونس) ، ثم الى (سورة الاسراء) ثم الى (سورة الشعراء) ، ثم الى (سورة الصافات) ثم الى (سورة ق) ثم الى آخر السلكة ومنذ ذلك الحين وأنا أقرأ القرآن من المصحف الشريف بهذا الترتيب.

إن المحافظة على تلاوة القرآن والتعبد به تدل على قوة الايمان، وتعمقه في النفس، وبسبب الايمان العظيم الذي تحلى به عمر المختار انبثق عنه صفات جميلة، كالامانة والشجاعة، والصدق، ومحاربة الظلم، والقهر، والخنوع وقد تحلى هذا الايمان في حرصه على أداء الصلوات في أوقاتها قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا} وكان يتعبد المولى عز وجل بتنفيذ أوامره ويسارع في تنفيذها وكان كثير التنفل في أوقات الفراغ، وكان قد ألزم نفسه بسنة الضحى وكان محافظاً على الوضوء حتى في غير أوقات الصلاة، ومما يروى عنه أنه قال: لا أعرف إنني قابلت أحداً من السادة السنوسية وأنا على غير وضوء منذ شرفني الله بالانتساب إليهم.

لقد كان هذا العبد الصالح يهتم بزاده الروحي اليومي بتلاوة القرآن الكريم، وقيام الليل واستمر معه هذا الحال حتى استشهاده.

فهذا المجاهد محمود الجهمي الذي حارب تحت قيادة عمر المختار وصاحبه كثيراً، يذكر في مذكراته أنه كان يأكل معه وينام معه في مكان واحد ويقول: (لم أشهد قط أنه نام لغاية الصباح، فكان ينام ساعتين او ثلاثاً على أكثر تقدير، ويبقى صاحياً يتلو القرآن الكريم، وغالباً مايتناول الابريق ويسبغ الوضوء بعد منتصف الليل ويعود الى تلاوة القرآن ، لقد كان على خلق عظيم يتميز بميزات التقوى والورع، ويتحلى بصفات المجاهدين الأبرار....).

وأما الاستاذ محمد الطيب الاشهب فقد قال : (وقد عرفته معرفة طيبة وقد مكنتني هذ المصاحبة من الاحتكاك به مباشرة، فكنت أنام بخيمته والى جانبه وأهم ماكنت امقته منه رحمه الله وأنا وقت ذاك حديث السن هو أنه لايتركنا أن ننام إذ يقضي كل ليلة يتلو القرآن ويقوم مبكراً فيأمرنا بالوضوء بالرغم عما نلاقيه من شدة البرد ومتاعب السفر...).

وكأني أراه من خلف السنين وهو قائم يصلي لله رب العالمين في وديان وجبال وكهوف الجبل الأخضر وقد التف بجرده الابيض في ظلمة الليل البهيم وهو يتلو كتاب الله بصوت حزين، وتنحدر الدموع على خدوده من خشية العزيز الرحيم.

قال تعالى: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور} (سورة فاطر ، الآية ).

لقد وصى رسول الله e ابا ذر بذلك فقال: (عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء) وقد حذر الرسول الكريم من هجر القرآن فقال: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخَرِبْ).

قال الشاعر:

قم في الدجى واتل الكتاب

ولا تنم إلا كنومة حائر ولهان

فلربما تأتي المنية بغتة

فتساق من فرش الى الاكفان

ياحبذا عينان في غسق الدجى

من خشية الرحمن باكيتان

اعرض عن الدنيا الدنيئة زاهداً

فالزهد عند أولى النهى زهدان

زهد عن الدنيا وزهد في الثناء

طوبى لمن أمسى له الزهدان

إن من اسباب الثبات التي تميز به عمر المختار حتى اللحظات الأخيرة من حياته إدمانه على تلاوة القرآن الكريم والتعبد به وتنفيذ أحكامه، لأن القرآن الكريم مصدر تثبيت وهداية وذلك لما فيه من قصص الأنبياء مع أقوامهم ، ولما فيه من ذكر مآل الصالحين، ومصير الكافرين والجاحدين وأوليائه بأساليب متعددة.

لقد كان عمر المختار يتلوا القرآن الكريم بتدبر وإيمان عظيم فرزقه الله الثبات وهداه طريق الرشاد ولقد صاحبه حاله في التلاوة حتى النفس الأخير، وهو يساق الى حبل المشنقة وهو يتلو قوله تعالى :{يا أيتها النفس المطمئة ارجعي الى ربك راضية مرضية} (سورة الفجر).

شجاعته وكرمه:

إن هذه الصفة الجميلة تظهر في سيرة عمر المختار منذ شبابه الباكر ففي عام 1311هـ (1894م) تقرر سفر عمر المختار على رأس وفد الى السودان يضم كل من السيد خالد بن موسى، والسيد محمد المسالوسي ، وقرجيله المجبري وخليفة الدبار الزوي احد اعضاء زاوية واو بفزان (وهو الذي روى القصة) وفي الكفرة وجد الوفد قافلة من التجار من قبيلتي الزوية والمجابرة ، وتجار آخرين من طرابلس وبنغازي تتأهب للسفر الى السودان، فانضم الوفد الى هؤلاء التجار الذين تعودوا السير في الطرق الصحراوية ، ولهم خبرة جيدة بدروبها وعندما وصل المسافرون الى قلب الصحراء بالقرب من السودان قال بعض التجار الذين تعودوا المرور من هذا الطريق إننا سنمر بعد وقت قصير بطريق وعر لا مسلك لنا غيره ومن العادة - إلا في القليل النادر- يوجد فيه أسد ينتظر فريسته من القوافل التي تمر من هناك، وتعودت القوافل أن تترك له بعيراً كما يترك الانسان قطعة اللحم الى الكلاب أو القطط، وتمر القوافل بسلام واقترح المتحدث أن يشترك الجميع في ثمن بعير هزيل ويتركونه للاسد عند خروجه، فرفض عمر المختار بشدة قائلاً: (إن الاتاوات التي كان يفرضها القوي منا على الضعيف بدون حق أبطلت فكيف يصح لنا أن نعيد اعطاءها للحيوان إنها علامة الهوان والمذلة. إننا سندفع الاسد بسلاحنا اذا ما اعترض طريقنا) وقد حاول بعض المسافرين أن يثنيه عن عزمه، فرد عليهم قائلاً: أنني أخجل عندما أعود وأقول أنني تركت بعيراً الى حيوان اعترض طريقي وأنا على استعداد لحماية ما معي وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته إنها عادة سيئة يجب أن نبطلها ، وما كادت القافلة تدنو من الممر الضيق حتى خرج الاسد من مكانه الذي اتخذه على احدى شرفات الممر فقال أحد التجار وقد خاف من هول المنظر وارتعشت فرائصه من ذلك: أنا مستعد أتنازل عن بعير من بعائري ولا تحاولوا مشاكسة الأسد، فانبرى عمر المختار ببندقيته وكانت من النوع اليوناني ورمى الاسد بالرصاصة الاولى فأصابته ولكن في غير مقتل واندفع الاسد يتهادى نحو القافلة فرماه بأخرى فصرعته، وأصر عمر المختار على أن يسلخ جلده ليراه أصحاب القوافل فكان له ما أرد.

إن هذه الحادثة تدلنا على شجاعة عمر المختار وقد تناولتها المجالس يومذاك بمنتهى الاعجاب وقد سأل الاستاذ محمد الطيب الاشهب عمر المختار نفسه عن هذه الحادثة في معسكر المغاربة بخيمة السيد محمد الفائدي عن هذه الواقعة فأجاب بقوله: تريدني ياولدي أن أفتخر بقتل صيد قال لي ما قاله قديماً أحد الأعراب لمنافسه وقد قتل أسداً (أتفتخر عليّ بانك قتلت حشرة) وامتنع عمر المختار بقول الله تعالى : {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (سورة الانفال).

إن جواب عمر المختار بهذه الآية الكريمة يدل على تأثره العميق بالقرآن الكريم، لأنه تعلم أن أهل الايمان والتوحيد في نظرتهم العميقة لحقيقة الوجود، وتطلعهم الى الآخرة ينسبون الفضل الى العزيز الوهاب سبحانه وتعالى، ويتخلصون من حظوظ نفوسهم، فهو الذي مرّ كثيراً على دعاء نبي الله يوسف عليه السلام: {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السموات والارض أنت ولي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً والحقني بالصالحين} (سورة يوسف: الآية 101).

وهو الذي تعلم من سيرة ذي القرنين هذا المعنى الرفيع والذي لابد من وجوده في الشخصية القيادية الربانية في قوله تعالى: {هذا رحمة من ربي....} (سورة الكهف، الآية 98)، فعندما بنى السد ، ورفع الظلم ، واعان المستضعفين نسب الفضل الى ربه سبحانه وتعالى.

إن عمر المختاركان صاحب قلب موصول بالله تعالى، فلم تسكره نشوة النصر، وحلاة الغلبة بعد ما تخلص من الاسد الاسطورة وازاح الظلم وقهر التعدي بل نسب الفضل الى خالقه ولذلك أجاب سائله بقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (سورة الانفال، الآية 17) .

إن صفة الشجاعة ظهرت في شخصية عمر المختار المتميزة في جهاده في تشاد ضد فرنسا، وفي ليبيا ضد ايطاليا ويحفظ لنا التاريخ هذه الرسالة التي ارسلها عمر المختار رداً على رسالة من الشارف الغرياني الذي أكرهته ايطاليا ليتوسط لها في الصلح مع عمر المختار وايقاف الحرب.

(قال بعد البسملة والتصلية على رسول الله القائل أن الجنة تحت ظلال السيوف.

الى أخينا سيدي الشارف بن أحمد الغرياني حفظه الله وهداه، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ومغفرته ومرضاته. نعلمكم أن إيطاليا إذا أرادت أن تبحث معنا في أي موضوع تعتقد أنه يهمها ويهمنا فما عليها إلا أن تتصل بصاحب الأمر ومولاه سيدي السيد محمد إدريس ابن السيد محمد المهدي ابن السيد محمد السنوسي رضي الله عنهم جميعاً، فهو الذي يستطيع قبول البحث معهم أو رفضه، وأنتم لا تجهلون هذا بل وتعرفون إذا شئتم أكثر من هذا ومكان سيدي إدريس في مصر معروف عندكم وأما أنا وبقية الاخوان المجاهدين لا نزيد عن كوننا جند من جنوده لانعصي له أمراً ونرجو من الله سبحانه وتعالى أن لايقدر علينا مخالفته فنقع فيما لانريد الوقوع فيه حفظنا الله وإياكم من الزلل نحن لا حاجة عندنا إلا مقاتلة أعداء الله والوطن وأعدائنا وليس لنا من الامر شيء إذا ما أمرنا سيدنا وولى نعمتنا رضي الله عنه ونفعنا به بوقف القتال نوقفه وإذا لم يأمرنا بذلك فنحن واقفون عند ما أمرنا به ولا نخاف طيارات العدو ومدافعه ودباباته وجنوده من الطليان والحبش والسبايس المكسرين (هؤلاء الآخرين هم المجندون من بعض الليبيين) ولا نخاف حتى من السم الذي وضعوه في الآبار وبخوا به الزروع النابتة في الأرض نحن من جنود الله وجنوده هم الغالبون ونحن لا نريد لكم مايدفعكم إليه النصارى وظننا بكم خير والله يوفقنا ويهدينا وإياكم الى سبل الرشاد وإلى خدمة المسلمين ورضاء سيدنا رضي الله عنه وسلام الاسلام على من تبع الاسلام.

13 ربيع الثاني 1344هـ

نائب المنطقة الجبلية عمر المختار

ومحل الشاهد من هذه الرسالة قوله: (ولا نخاف طيارات العدو ومدافعه ودباباته وجنوده من الطليان والحبش والسبايس ، ولا نخاف حتى من السم الذي وضعوه في الآبار ووضعوه على الزروع النابتة في الأرض نحن من جنود الله وجنوده هم الغالبون).

إن صفة الشجاعة ملازمة لصفة الكرم، كما أن الجبن والبخل لا يفترقان ولقد حفظ لنا التاريخ عبارة جميلة كان يرددها عمر المختار بين ضيوفه : (اننا لا نبخل بالموجود ولا نأسف لمفقود).

لقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة بمدح الكرم والانفاق وذم البخل والامساك، قال تعالى : {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} (سورة السجدة، آية 16).

لم تكن همة عمر المختار منصرفة الى جمع المال والثروة والغنى وإن كان قد ورث عن والده بعض الماشية إلا أنه تركها في رعاية بعض أقاربه في القبيلة وترك أرضه وموطنه منذ أن كان عمره 16 عاماً، وكان طيلة فترة إقامته في معهد الجغبوب تتكفل إدارة المعهد بمصروفاته وبعد أن تزوج وكوّن أسرة أصبح مورد رزقه مايتحصل عليه من نتاج الحيوانات القليلة ولم يكن يوماً من الأيام متفرغاً لجمع المال، وإنما عاش للعلم والدعوة والجهاد، وانشغل عن جمع الاموال والثروات وقضى حياته فقيراً مقتنعاً بما رزقه الله من القناعة والرضى بالكفاف وكان يبذل مافي وسعة لضيوفه وجنوده وينفق على أفراد جيشه ما لايخشى الفقر، ويقدم إخوانه على نفسه وأصبح شعاره (إننا لا نبخل بالموجود ولا نأسف لمفقود).

الدعوة والجهاد قبل الاحتلال الايطالي:

تفوق عمر المختار على اقرانه بصفات عدة منها، متانة الخلق، ورجاحة العقل، وحب الدعوة، ووصل أمره الى الزعيم الثاني للحركة السنوسية محمد المهدي السنوسي فقدمه على غيره واصطحبه معه في رحلته الشهيرة من الجغبوب الى الكفرة عام 1895م وفي عام 1897م أصدر محمد المهدي قراراً بتعيين عمر المختار شيخاً لزاوية القصور بالجبل الأخضر قرب المرج، وقام عمر المختار بأعباء المهمة خير قيام، فعلمّ الناس أمور دينهم، وساهم في فض النزعات بين القبائل وعمل على جمع كلمتهم وسعى في مصالحهم ، وسار في الناس سيرة حميدة، فظهر في شخصيته أخلاق الدعاة من حلم وتأني، وصبر، ورفق، وعلم ، وزهد.

ومما تجدر الاشارة إليه أن وقوع الاختيار عليه للقيام بأمور هذه الزاوية كان مقصوداً من قبل قيادة الحركة السنوسية حيث أن هذه الزاوية كانت في ارض قبيلة العبيد التي عرفت بقوة الشكيمة، وشدة المراس، فوفقه الله في سياسة هذه القبيلة ، ونجح في قيادتها بفضل الله وبما أودع الله فيه من صفات قيادية من حكمة وعلم وحلم وصبر واخلاص.

إن الفترة التي قضاها في زاوية القصور تدلنا وتشهد لنا على أعماله الجليلة ؛ كداعية رباني يدعو الى الاسلام ونشره بالفكرة والاقناع والارشاد التوجيه، فهو قمة شامخة في هذا المجال، فهو لم يدخل مجال الدعوة والارشاد إلا بعد أن تعلم من أمور دينه الكثير، فشق طريق الدعوة بزاد علمي، وثقافة متميزة، وتفوق روحي، ورجاحة عقل، وقوة حجة ورحابة صدر، وسماحة نفس لقد كان حريصاً على تعلم العلم والعمل به وتعليمه وعندما زحف الاستعمار الفرنسي على مراكز الحركة السنوسية في تشاد، نظمت الحركة السنوسية نفسها وأعدت للجهاد عدتها، واختارت من القادة من هم أولى بهذا العمل الجليل، فكان عمر المختار من ضمنهم فقارع الاستعمار الفرنسي مع كتائب الحركة السنوسية المجاهدة في تشاد وبذل مافي وسعه حتى لفت الانظار الى حزمه وعزمه وفراسته وبعد نظره وحسن قيادته فقال عنه محمد المهدي السنوسي: (لو كان لدينا عشرة مثل المختار لاكتفينا)

وبقي عمر المختار في تشاد يعمل على نشر الاسلام ودعوة الناس وتربيتهم الى جانب جهاده ضد فرنسا، فحمل الكتاب الذي يهدي بيد والسيف الذي يحمي باليد الاخرى، وظهرت منه شجاعة وبطولة وبسالة نادرة في الدفاع عن ديار المسلمين، وكانت المناطق التي يتولى أمرها أمنع من عرين الاسد، ولا يخفى مافي ذلك من ادراك القيادي المسلم لواجبه تجاه دينه وعقيدته وأمته.

وعندما أصيبت الأبل التي كانت تحمل الاثقال للمجاهدين بمرض الجرب، وكان عددها لا يقل عن أربعة آلاف بعير وكانت تلك الابل هي قوام الحياة بالنسبة للمجاهدين واهتم السيد المهدي السنوسي بشأن علاجها ووقع اختياره على عمر المختار ليكون المسؤول عن هذه المهمة التي شغلت بال المجاهدين، فأمره بأن يذهب بالابل الى موقع (عين كلك) نظراً لوفرة مائه ولصلاحيته، وكان على عمر المختار مهمة اخرى وهي الاحتياط والحرص الشديد واتخاذ التدابير اللازمة للدفاع، واختار عمر المختار من المجاهدين مجموعة خيرة، وذهب لتنفيذ أمر القيادة وكان توفيق الله له عظيماً في مهمته العسيرة فنال أعجاب السيد المهدي.

وفي عام 1906م رجع عمر المختار بأمر من القيادة السنوسية الى الجبل الاخضر ليستأنف عمله في زاوية القصور، ولكن ذلك لم يستمر طويلاً، فقد بدأت المعارك الضارية بين الحركة السنوسية والبريطانيين في منطقة البردى ومساعد والسلوم على الحدود الليبية المصرية. ولقد شهد عام 1908م أشد المعارك ضراوة وانتهت بضم السلوم الى الأراضي المصرية تحت ضغوط بريطانيا على الدولة العثمانية، وعاد الشيخ عمر المختار الى زاوية القصور وبرزت شخصيته بين زملائه مشايخ الزوايا، وبين شيوخ وأعيان القبائل، ولدى الدوائر الحكومية العثمانية، وظهرت مقدرته في مهمته الجديدة بصورة تلفت النظر، وأصبح متميزاً في حزمه في ادارة الزاوية وفي تعاونه مع زملائه الآخرين وفي معالجته للمشاكل القبلية، وفي ميدان الاصلاح العام مضرباً للامثال.

وكانت تربطه صلات شخصية مع عدد كبير من زعماء، وأعيان القبائل في برقة، وكذلك زعماء المدن، وكان زعماء البراعصة يحبون عمر المختار حباً نابعاً من قلوبهم في حين أنهم لم يكونوا من القبائل التابعة لزاويته ÷ وارتبطت علاقاته الاخوية مع شيوخ الزوايا كالسادة السنوسي الأشهب شيخ زاوية مسوس، وعمران السكوري شيخ زاوية المرج، وعبد ربه بوشناف الشيخي، والحسن الغماري شيخ زاوية دريانه

الشيخ عمر المختار في معاركه الأولى ضد إيطاليا:

عندما اندلعت الحرب الليبية الايطالية عام 1911م كان عمر المختار وقتها بواحة (جالو) خفّ مسرعاً الى زاوية (القصور) وامر بتجنيد كل من كان صالحا ًللجهاد من قبيلة العبيد التابعة لزواية (القصور) ، فاستجابوا نداءه، واحضروا لوازمهم، وحضر أكثر من ألف مقاتل، وكان عيد الاضحى من نفس السنة الهجرية على الأبواب أي لم يبق عنه إلا ثلاثة أيام فقط، ولم ينتظر السيد عمر المختار عند أهله حتى يشاركهم فرحة العيد، فتحرك بجنوده وقضوا يوم العيد في الطريق وكانت الذبائح التي اكل المجاهدين من لحومها يوم العيد من السيد عمر المختار شخصياً، ووصل المجاهدون وعلى راسهم عمر المختار وبرفقته احمد العيساوي الى موقع بنينه حيث معسكر المجاهدين الذي فرح بقدوم نجدة عمر المختار ورفقائه ثم شرعوا يهاجمون العدو ليلاً ونهاراً وكانت غنائمهم من العدو تفوق الحصر وقد بينت دور الزوايا في جهادها ضد ايطاليا في الجزء الثاني عن الحركة السنوسية والذي سميته سيرة الزعمين محمد المهدي السنوسي ، وأحمد الشريف.

ويذكر الشيخ محمد الأخضر العيساوي بأنه كان قريباً من عمر المختار في معركة السلاوي عام 1911م فوصف لنا بعض احداث تلك المعركة فقال: (..وقد فاجأنا العدو فقابله من المجاهدين الخيالة، بينما كان العدو يضربنا بمدافعه الرشاشة واضطررنا للنزول في مكان منخفض مزروعاً بالشعير وكانت السنابل تتطاير بفعل الرصاص المنهمر، فكأنها تحصد بالمناجل، وبينما نحن كذلك إذ رأينا مكاناً منخفضاً أكثر من المكان الذي نحن فيه، وأردنا أن يأوى إليه السيد عمر المختار بسبب خوفنا عليه فرفض بشدة حتى جاءه احد أتباعه يدعى السيد الأمين ودفعه بقوة الى المكان الذي اخترناه لايوائه وحاول الخروج منه فمنعناه بصورة جماعية......).

كما أشار الشيخ محمد الأخضر الى إعجاب الضباط الأتراك به وبشجاعته وبالآراء السديدة التي تصدر عنه فكأنما هي تصدر من قائد ممتاز تخرج عن كلية عسكرية، وكان قدومه الى معسكرات المجاهدين مشجعاً وباعثاً للروح المعنوية في قوة خارقة وقد تحدثت في سيرة احمد الشريف في الجزء الثاني عن الحركة السنوسية عن حركة الجهاد في أيامها الأولى ضد ايطاليا، وكان عمر المختار من المقربين للشيخ احمد الشريف السنوسي، وبعد هجرته لازم عمر المختار الأمير محمد ادريس وقام بواجباته خير قيام وبعد هجرة الأمير الى مصر تولى أمر القيادة العسكرية بالجبل الاخضر، وأخذ في تهيئة النفوس لمجابهة العدو وبدأ جولاته في أنحاء المنطقة للاتصال بالاهالي وزعمائهم، بل وبالأفراد كخطوة اولى للعمل الجديد الشاق في نفس الوقت، وقام بفتح باب التطوع للجهاد، فأقبل الليبيين من ابناء قبائل الجبل بوجوه مستبشرة وقلوب مطمئنة وتلهف على مجابهة العدو الغادر، وكانت ترافقه لجنة مكونة من أعيان وشيوخ قبائل المنطقة (البراغيث، والحرابي، والمرابطين) لمساعدته في عمله العظيم وكان من بينهم ؛ بوشديق بومازق حدوث، الصيفاط بوفروة، محمد بولقاسم جلغاف، حمد الصغير حدوث، دلاف بوعبدالله، محمد العلواني، سويكر عبدالجليل، موسى بوغيضان، الغرياني عبدربه بوشناف، عبدالله الخرساني، عوض العبيدي، رجب بوسيحة، رواق بودرمان، كريم بوراقي ، قطيط الحاسي، وغير هؤلاء من علية القوم، فزار أغلب منطق الجبل والبطنان، وكان سمو الأمير قد وصل الى مصر (يناير 1923م) وما كاد السيد عمر ينتهي من جولته هذه ويطمئن للنتائج حتى قرر الالتحاق بسمو الامير في مصر ليعرض عليه نتيجة عمله ويتلقى منه التوجيهات اللازمة.

سفره الى مصر :

سافر في شهر مارس سنة 1923م الى مصر بصحبة علي باشا العبيدي وترك رفقائه عند بئر الغبي حتى يعود إليهم، واستطاع اجتياز الحدود المصرية وتمكن من مقابلة السيد ادريس بمصر الجديدة ، وكان عمر المختار عظيم الولاء للسنوسية وزعمائها وشيوخها وظهر ذلك الولاء في إقامته بمصر عندما حاول جماعة من قبيلة المنفة وهي قبيلة السيد عمر المختار، وكانوا قد اقاموا بمصر، أن يقابلوا السيد عمر للترحيب به، فاستفسر المختار قبل ان يأذن لهم بذلك عما أذا كانوا قد سعوا لمقابلة الأمير عند حضوره الى مصر، فلما أجاب هؤلاء بالنفي معتذرين بأن أسباباً عائلية قهرية منعتهم من تأدية هذا الواجب رفض المختار مقابلتهم قائلاً: (وكيف تظهرون لي العناية وتحضرون لمقابلتي وأنتم الذين تركتم شيخي الذي هو ولي نعمتي وسبب خيري. أما وقد فعلتم ذلك فإني لا أسمح لكم بمقابلتي ولا علاقة من الآن بيني وبينكم).

فما إن بلغ السيد ادريس مافعله عمر المختار مع من جاء إليه من أبناء قبيلته حتى أصدر امره بمقابلتهم فامتثل المختار لامره

حاولت ايطاليا بواسطة عملائها بمصر الاتصال بالسيد عمر المختار وعرضت عليه بأنها سوف تقدم له مساعدة إذا ماتعهد باتخاذ سكنه في مدينة بنغازي أو المرج، وملازمة بيته تحت رعاية وعطف ايطاليا، وأن حكومة روما مستعدة بأن تجعل من عمر المختار الشخصية الاولى في ليبيا كلها وتتلاشى أمامه جميع الشخصيات الكبيرة التي تتمتع بمكانتها عند ايطاليا في طرابلس وبنغازي، وإذا ما اراد البقاء في مصر فما عليه إلا أن يتعهد بأن يكون لاجئاً ويقطع علاقته بادريس السنوسي، وفي هذه الحالة تتعهد حكومة روما بان توفر له راتباً ضخماً يمكنهّ من حياة رغدة، وهي على استعداد أن يكون الاتفاق بصورة سرية وتوفير الضمانات لعمر المختار ويتم كل شيء بدون ضجيج تطميناً لعمر المختار وقد طلبت منه نصح الاهالي بالاقلاع عن فكرة القيام في وجه ايطاليا، وقد أكد عمر المختار هذا الاتصال وهو في مصر لما سئل عن ذلك وقال: ثقوا أنني لم أكن لقمة طائبة يسهل بلعها على من يريد، ومهما حاول أحد أن يغير من عقيدتي ورأي واتجاهي، فإن الله سيخيبه، ومن (طياح سعد) إيطاليا ورسلها هو جهلها بالحقيقة. وأنا لم اكن من الجاهلين والموتورين فادعي أنني أقدر أعمل شيئاً في برقة، ولست من المغرورين الذين يركبون رؤسهم ويدعون أنهم يستطيعون أن ينصحوا الأهالي بالاستسلام، انني أعيذ نفسي من أن أكون في يوم من الايام مطية للعدو وأذنابه فأدعوا الأهالي بعدم الحرب ضد الطليان، وإذا لاسمح الله قدّر عليّ بأن أكون موتوراً فإن اهل برقة لايطيعون لي امراً يتعلق بإلقاء السلاح إنني أعرف أن قيمتي في بلادي إذا ماكانت لي قيمة أنا وأمثالي فأنها مستمدة من السنوسية.

لقد استمرت عروض الايطاليين على عمر المختار حتى بعد رجوعه للبلاد وحاولوا استمالته بالمال الطائل، والمناصب الرفيعة ، والجاه العريض في ظل حياة رغيدة ناعمة ولكنهم لم يفلحوا ، لقد كان عمر المختار رجل عقيدة، وصاحب دعوة ومؤمناً بفكرة استمدت اصولها وتصوراتها من كتاب الله تعالى وسنة نبيه e ويفهم جيداً معنى قول الله تعالى: {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها مانشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً} (الاسراء ، الآية ).

وعندما خرج السيد عمر المختار من مصر قاصداً برقة لمواصلة الجهاد اجتمع به مشايخ قبيلته الموجودون بمصر من المتقدمين في السن وحاولوا أن يثنوه عن عزمه بدعوى أنه قد بلغ من الكبر عتيا وان الراحة والهدوء ألزم له من أي شيء آخر وأن باستطاعة السنوسية أن تجد قائداً غيره لتزعم حركة الجهاد في برقة، فغضب عمر المختار غضباً شديداً وكان جوابه قاطعاً فاصلاً فقال لمحدثيه: (إن كل من يقول لي هذا الكلام لا يريد خيراً لي لأن ما أسير فيه إنما هو طريق خير ولا ينبغي لأحد أن ينهاني عن سلوكها، وكل من يحاول ذلك فهو عدو لي).

لقد كان عمر المختار يعتقد اعتقاداً راسخاً أن ماكان يقوم به من الجهاد إنما هو فرض يؤديه وواجب ديني لامناص منه ولا محيد عنه ولذلك أخلص في عمله وسكناته واحواله وأقواله لقضية الجهاد في ليبيا وكان يكثر من الدعاء لله تعالى بأن يجعل موته في سبيل هذه القضية المباركة، فكان يقول: (اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة) ، وأصر على البقاء في أرض الوطن الحبيب وقال: (لا أغادر هذا الوطن حتى ألاقي وجه ربي والموت أقرب الى من كل شيء فإني أترقبه بالدقيقة)

وعندما عرض عليه أن يترك ساحة الجهاد، ويسافر الى الحج قال : (لن أذهب ولن أبرح هذه البقعة حتى يأتي رسل ربي وان ثواب الحج لايفوق ثواب دفاعنا عن الوطن والدين والعقيدة)

وقال: (كل مسلم الجهاد واجب عليه وليس منه، وليس لغرض اشخاص وإنما هو لله وحده)

إن هذه الكلمات التي كتبت بماء الذهب على صفحات تاريخنا المجيد نابعة من فهم عمر المختار لقوله تعالى: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لايستوون عند الله والله لايهدي القوم الظالمين`الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله باموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله وأولئك هم الفائزون يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم`خالدين فيها أبداً إن الله عنده أجر عظيم} (سورة التوبة، الآيات 29، 20،21).

ومن فهمه لأحاديث رسول الله e: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)

ولقوله: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)

إن هذه الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة، كانت المنهج العقدي والفكري الذي تربت عليها كتائب المجاهدين وقادتها الكرام الذين تربوا في احضان الحركة السنوسية.

تم الاتفاق بين الأمير ادريس وعمر المختار على تفاصيل الخطة التي يجب أن يتبعها المجاهدون في جهادهم ضد العدو الغاشم المعتدي على اساس تشكيل المعسكرات، واختيار القيادة الصالحة لهذه الادوار، وأن تظل القيادة العليا من نصيب عمر المختار نفسه وزوده الأمير بكتاب الى السيد الرضا بهذا المعنى وتم الاتفاق على بقاء الامير في مصر ليقود العمل السياسي، ويهتم بأمر المهاجرين ويضغط على الحكومة المصرية والانكليزية بالسماح للمجاهدين بالالتجاء الى مصر، ويشرف على إمداد المجاهدين بكل المساعدات الممكنة من مصر، ويرسل الارشادات والتعليمات اللازمة الى عمر المختار في الجبل واتفق على أن يكون الحاج التواتي البرعصي حلقة الوصل بين الأمير وقائد الجهاد، وبعد ذلك الاتفاق غادر عمر المختار القاهرة، وعند وصوله الى السلوم وجد بعض رفقائه في انتظاره، فأخذ الجميع حاجتهم من المؤن الكافية لرحلتهم الى الجبل الأخضر وغادروا السلوم الى برقة

وقد حدث في أثناء وجود عمر المختار أن اشتبك المجاهدون مع الطليان في معركتين كبيرتين في بير بلال والبريقة في ذي القعدة 1341هـ/ 1923م ، فأنتصر المجاهدون على الطليان في معركة بير بلال بقيادة المجاهد قجة عبدالله السوداني واستشهد كل من المهدي الحرنة، والشيخ نصر الأعمى وغيرهم، وقد ساهم في هذه المعركة صالح الاطيوش، والفضيل المهشهش وكانت نفقات المجاهدين في هذه المعركة على حساب الفضيل المهشهش ووقعة معركة البريقة بعد بير بلال بأربعة أيام واستشهد فيها من أبطال الجهاد ابراهيم الفيل

ومع هذه الانتصارات إلا أن الطليان استطاعوا احتلال اماكن للمجاهدين في برقة، وزحفوا على معسكر العواقير بموقع البدين وبعد معركة شديدة كبدت الطرفين خسائر فادحة انسحب المعسكر الى اجدابية واستمر الزحف الايطالي يلاحق المجاهدين حتى اشتبك مع طلائع معسكر المغاربة في الزويتينه؛ ولم يطل الدفاع عنها حتى احتلها الطليان وواصلوا زحفهم الى اجدابية حيث احتلوها في (ابريل 1923م)

معركة بئر الغبي:

كانت عيون ايطاليا تترصد حركة عمر المختار في عودته الى برقة ولكنها فشلت في اللقاء به قبل أن يصل الى رفاقه وما كاد يصل الى بئر الغبي حتى فؤجئ بعدد من المصفحات الايطالية وإليك أحداث المعركة كما رواها عمر المختار بنفسه: (كنا لانتجاوز الخمسين شخصاً من المشايخ والعساكر وبينما تجمع هؤلاء حولنا لسؤالنا عن صحة سمو الامير، وكنا صائمين رمضان وإذا بسبعة سيارات ايطالية قادمة صوبنا فشعرنا بالقلق لأن مجيئها كان محل استغرابنا ومفاجأة لم نتوقعها، وكنا لم نسمع عن هجوم الطليان على المعسكرات السنوسية، واحتلالهم اجدابية، فأخذنا نستعد في هدوء والسيارات تدنوا منا في سير بطيء فأراد علي باشا العبيدي أن يطلق الرصاص من بندقيته ولكنني منعته قائلاً: لابد أن نتحقق قبلاً من الغرض ونعرف شيئاً عن مجيء هذه السيارات كي لانكون البادئين بمثل هذه الحوادث وبينما نحن في أخذ ورد وإذا بالسيارات تفترق في خطة منظمة المراد منها تطويقنا، وشاهدنا المدافع الرشاشة مصوبة نحونا فلم يبق هنا أي شك فيما يراد بنا فأمطرناهم وابلاً من رصاص بنادقنا، وإذا بالسيارات قد ولت الادبار الى منتجع قريب منا وعادت بسرعة تحمل صوفا، ولما دنت منا توزعت توزيعاً محكماً وأخذ الجنود ينزلون ويضعون الأصواف (الخام) أمامهم ليتحصنوا بها من رصاصنا وبادرنا بطلق الأعيرة فأخذ علي باشا يولع سيجارة وقلت له رمضان ياعلي باشا منبهاً إياه للصوم فأجابني قائلاً: (مو يوم صيام المنشرزام)

وفي أسرع مدة انجلت المعركة عن خسارة الطليان وأخذت النار تلتهم السيارات إلا واحدة فرت راجعة، وغنمنا جميع ماكان معهم من الأسلحة)

ثم استمر المجاهدون في سيرهم حتى بلغوا الجبل الاخضر ووصلوا الى زاوية القطوفية (مكان معسكر المغاربة) وقابلهم صالح الاطيوش والفضيل المهشهش، ووقف عمر المختار على تفاصيل معركة البريقة وحال المجاهدين ثم واصل سيره الى جالو مقر السيد محمد الرضا ليبلغ التعليمات التي أخذها من سمو الامير.

وبعد أن تم اللقاء بين عمر المختار والسيد الرضا اتفقا على تنظيم حركة الجهاد وإنشاء المعسكرات في الجبل الاخضر واقترح عمر المختار على الرضا أن يرسل ابنه الصديق الى معسكر المغاربة عند صالح الاطيوش ومعسكر العواقير بقيادة قجة عبدالله السوداني، وهي معسكرات قريبة من بعضها ثم غادر عمر جالو الى الجبل الاخضر وشرع في تشكيل المعسكرات للمجاهدين ، وأنشئت معسكرات البراعصة والعبيد والحاسة، فاختار الرضا حسين الجويفي البرعصي لقيادة البراعصة، ويوسف بورحيل المسماري لمعسكر البراغيث والفضيل بوعمر لمعسكر الحاسة وأصبح عمر المختار القائد الأعلى لتلك المعسكرات.

وبدأ الجهاد الشاق والطويل واستمر متصلاً ومن غير هوداة حوالي ثمانية اعوام.

وكانت عامي 1924م، 1925م قد شاهدت مناوشات عدة ومعارك دامية، ووسع المجاهدون نشاطهم العسكري في الجبل الاخضر ولمع اسم عمر المختار نجمه كقائد بارع يتقن اساليب الكر والفر ويتمتع بنفوذ عظيم بين القبائل وأخذ العرب من أبناء القبائل ينضمون الى صفوف المجاهدين وبادرت القبائل بإمداد المجاهدين بما يحتاجون من مؤن وعتاد وأسلحة، وكان لقبائل العبيد، والبراعصة، والحاسة والدرسة والعواقير وأولاد الشيخ والعوامة، والشهيبات والمنفا والمسامير أكبر نصيب في حركة الجهاد.

كان معسكر البراغيث هو مركز الرياسة العامة ومقر القائد العام عمر المختار: وهو النواة الاولى وحجر الاساس لمعسكرات الجبل الاخضر الثلاثة وكان عمر المختار يلقب بنائب الوكيل العام، وكان السيد يوسف بورحيل يعرف بوكيل النائب وهكذا فقد تنظم الجهاز الحكومي في هذه المنطقة الواسعة بتشكيل المحاكم الشرعية والصلحية وإدارة المالية (المحاسبة، والارزاق وجباية الزكاة الشرعية والخمس من الغنائم) واستمر التعاون بين هذه المعسكرات الثلاثة وفروعها في السراء والضراء وأخذت تقوم بحركات عظيمة ضد العدو وشن الغرة عليه في معاقله؛ كما كانت تتصدى لزحفه عليها، فتهجم حيناً ، وتنسحب حيناً آخر حسب ظروف الحرب

أصبح تفكير إيطاليا محصوراً في برقة التي لم يتمكن الطليان منذ زحفهم على اجدابية سنة 1923م من احتلال مواقع تذكر عدا مدينة اجدابية ولذلك اهتمت ايطاليا ببرقة وانحصرت مجهوداتها في الفترة الواقعة بين سنة 1923م وبين 1927م على معسكرات عمر المختار الذي لم يخرج يوماً من معركة إلا ليدخل في معركة أخرى.

وفي عام 1927م وقع الوكيل العام السيد رضا المهدي السنوسي في الأسر بطريق الخديعة والخيانة والغدر وسقطت مناطق برقة الحمراء والبيضاء تدريجياً.

كانت قيادة الجيش الايطالي في برقة قد بدلت وتولى أمرها لتنفيذ الخطة الجديدة التي تستهدف ضرب الحصار على حركة الجهاد في الجبل الاخضر (ميزتي) كما استبدل والي بنغازي الايطالي (مومبيلي) بخلفه الجنرال (تيروتس) وهو من زعماء الحزب الفاشيستين وزود الجنرال ميزتي بعدد كبير من الجنرالات وكبار الضباط وأركان الحرب لمساعدته وفي نفس السنة تقدمت القوات الايطالية من طرابلس بقيادة الجنرال غرسياني فاحتلت واحة الجفرة والقسم الاكبر من فزان واشتبكت قبائل المغاربة بزعامة صالح الاطيوش وقبائل اولاد سليمان بزعامة عبدالجليل سيف النصر، ودور حمد بك سيف النصر، وبعض اللاجئين الى تلك الجهات من قبائل العواقير بزعامتي عبدالسلام باشا الكزة، والشيخ سليمان رقرق، ودخلت هذه القبائل في معارك بجهات الخشة وكان الغلبة فيها للجيش الايطالي الزاحف فالتجأ المجاهدون الى منطقة الهاروج من الصحراء ومن ثم اشتركوا مع العدو في معارك عنيفة منها معركة الهاروج، ومعركة جبل السوداء، ومعركة قارة عافية وكان من بين من حضروا هذه المعركة الاخيرة السيد محمود بوقويطين أمير اللواء وقائد عام قوة دفاع برقة في زمن المملكة الليبية المتحدة، والسيد السنوسي الاشهب.

كانت القيادة الايطالية حريصة على الاستيلاء على فزان فخرجت في اواخر يناير 1928م قوتان .. احدهما من غدامس والاخرى من الجبل الاخضر، وكان الجيش بقيادة غراسياني والتحم المجاهدون مع ذلك الجيش في معركة دامية استمرت خمسة أيام بتمامها، انهزم فيها الطليان شر هزيمة فتقهقروا تاركين مالديهم من مؤن وذخائر ثم مالبث أن خرجت قوة اخرى قصدت فزان مباشرة، فعلم المجاهدون بامرها بعد خروجها بثلاث أيام وانسحبوا الى الداخل، حتى اذا وصل هذا الجيش الجديد الى مكان يقع بين جبلين يعرفان بالجبال السود انقض المجاهدون على الطليان وأرغموهم على التقهقر، فعمل قواد الحملة الى الفرار بسياراتهم تاركين وراءهم الجيش ، الذي وقع أكثره في قبضة المجاهدين، فأستأصلوهم عن آخرهم، وعندئذ لم يجد الطليان مناصا من أن يجددوا محاولتهم ، فخرجت هذه المرة قوات عظيمة من جهات متعددة غير أن الطليان ما لبثوا ان انهزموا في هذه المعارك وتركوا وراءهم غنائم وأسلابا كثيرة ، وجدد الطليان المسعى وخرجوا من الجفرة في 30 فبراير 1928م بجيش كبير وزحفوا على زله واحتلتها في 22 فبراير وواصلت القوات الايطالية سيرها واحتلت آبار تقرفت في 25 فبراير واستمرت العمليات وانتهت باحتلال مراده، واصبحت زلة وجالو، واوجله ومراده تحت سيطرتهم، ومما ساعد الطليان على احتلالهم لتلك الواحات سقوط الجغبوب قبل ذلك في ايديهم، وسياستهم الرامية لتفتيت الصف بواسطة بعض عملائهم وكان الطليان يبذلون الأموال والوعود لزعماء القبائل، لوقف القتال وقد نجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً.

كان احتلال الجغبوب ، جالو، اوجلو، وفزان وغيرها من الواحات قد جعل عمر المختار في عزلة تامة في الجبل الاخضر ومع هذا ظل عمر المختار يشن الغارات على درنة وماحولها حتى أرغم الطليان على الخروج بجيوشهم لمقابلته ، فاشتبك معهم في معركة شديدة استمرت يومين كان النصر فيها حليفه وفرّ الطليان تاركين عدداً من السيارات والمدافع الجبلية وصناديق الذخيرة والجمال، ودواب النقل.

وكانت القبائل تتعاون مع قائد حركة الجهاد تمده بالرجال، والمؤن والمعلومات وعلى سبيل المثال كان حامد عبدالقادر المبروك من شيوخ قبيلة المسامير يمد المختار بالمعلومات المهمة دون تأخر، ويشارك في عمليات الجهاد مع أبناء قبيلته بدون علم الطليان ويرجع من كتبت له الحياة إلى موطنه ويستشهد من يستشهد وكان زعماء القبائل التابعة للحركة السنوسية يجمعون الاعشار والزكاة ويمدون بها حركة الجهاد بالرغم من وجود الكثير منهم تحت السلطات الإيطالية، وخصوصاً من كان في المدن كبنغازي، والمرج، ودرنة، وطبرق وغيرها، وكانت وسائل مد المجاهدين بأموال الزكاة والأعشار تتم في غاية السرية وعجزت المخابرات الإيطالية عن اكتشاف اللجان الخاصة بالدعم المالي للمجاهدين، ومن وقع في أيدي السلطات الإيطالية كانت عقوبة الإعدام وكانت الغنائم تمثل مصدراً مهماً لتمويل حركة الجهاد في فترة عمر المختار، ومعظم الغنائم تم الحصول عليها في المعارك التي تمكن فيها المجاهدون من هزيمة الإيطاليين مثل معركة الرحيبة في مارس 1927م وقد وصف حافظ إبراهيم هذا المصدر في أبياته الشعرية فقال:

حاتم الطليان قد قلدتنا

منة نذكرها عاماً فعاما

أنت أهديت إلينا عدة

ولباساً وشراباً وطعاماً

وسلاحاً كان في أيديكم

ذا ملال فغدا يفري العظاما

أكثروا النزهة في أحيائنا

وربانا إنها تشفى السقاما

لست أدري بت ترعى أمة

من بني الطليان أم ترعى سواما

وقال الأستاذ أحمد كاشف ذو الفقار:

يآل رومة تطلبون أمانياً

ختالة أم تطلبون منونا

جئتم تجرون الحديد ورحتم

بحديدكم في اليم مغلولينا

ورقصتم فيه سكارى فارقصوا

في الليلة السوداء مذبوحينا

لكن استفزكم صليل سيوفكم

فلقد تبدل زفرة وأنينا

إلى أن قال:

هاتوا الذئاب إلى الليوث فخمسة

منهم أبادوا منكم خمسينا

واستجمعوا حيتانكم ونسوركم

فالصائدون هناك مرتقبون

واستكثروا الزاد الشهي فإنكم

وسلاحكم والزاد مأخوذينا

لم يبق منهم معسر أو أعزل

بعد الذي غنموه منتصرينا

واستكملوا المدد الكبير بفتية

سيقوا إلى الهيجاء هيابينا

أحسبتم بطحاء برقة حانة

لكم وغزو القيروان مجونا

وكانت كل عائلة قد أخذت على عاتقها تزويد مجاهديها بما يلزم من شؤون وملابس، ترسله شهرياً إلى الدور (المعسكر).

وكان الأمير ادريس يتحين الفرص لتزويد المجاهدين فقد ذكر الأشهب بأن قافلة وصلت للمجاهدين قادمة من مصر وكان فيها سليمان العميري (من قبيلة أولاد علي) وبو منيقر المنفى (من رفاق عمر المختار) يحملان رسائل من سمو الأمير وكانت القافلة محملة بالأرز والدقيق والسكر والشاي وبعض الملابس، وكان الطيب الأشهب موجوداً في معسكر المجاهدين وقت وصول القافلة وقد ذكر صاحب كتاب حياة عمر المختار بأن قافلة استطاعت أن تخرج من السلوم محملة بمختلف العتاد والمؤن قاصدة معسكر المجاهدين في الجبل الأخضر، فعلم الطليان بذلك وأرسلوا سياراتهم المسلحة لتعقبها، ولكن المجاهدين صمدوا لهم، وأطلقوا رصاص بنادقهم على العجلات فتعطلت السيارات، وعندئذ انقض المجاهدون على القوة الإيطالية فأبادوها عن آخرها وكان ذلك في عام 1928م وكان المجاهدون يستفيدون من تلك المصادر ويقومون بشراء حاجيات المجاهدين من الأسواق في المدن والقرى، ويشترون مايلزمهم من المؤن، والأسلحة ويجمعون المعلومات عن تحركات العدو العسكرية، كل هذه الأعمال يقوم بها أتباع عمر المختار وبمساعدة سكان المدن والقرى الذين يخفون المجاهدين في بيوتهم ومخيماتهم، وكان المتطوعون يتدفقون على معسكرات الجهاد، وكانوا يعتمدون على أنفسهم في توفير السلاح ووسيلة الركوب والتموين، وكان نظام الأدوار (المعسكرات) يتميز بالآتي:

1- يلتزم كل دور بتوفير التموين اللازم لأفراده، فهم بالإضافة إلى اشتراكهم في عمل واحد هم أبناء عشيرة واحدة مترابطة، ويوجد بالدور أشخاص، مكلفون بجباية الزكاة وجمع الأعشار، وهؤلاء يقومون بعملهم بناء على تكليف كتابي من عمر المختار وهم بدورهم يجرون اتصالات (كوشان) بقيمة المبالغ والأشياء التي استلموها.

وقد عين لكل دور رئيس إدارة يشرف على تموين الدور من حيث التوزيع والتخزين والتدبير وتسلم الأموال والتبرعات التي تصل لقيادة الدور، فقد عين عمران راشد القطعاني رئيساً لإدارة دور البراعصة والدرسة وعين التواتي العرابي رئيساً لإدارة دور العبيدات والحاسة، وعين الصديق بو هزاوي مأموراً للأعشار ويتبع عمر المختار مباشرة وعين داود الفسي رئيساً لإدارة دور العواقير.

2- يقوم كل دور بتعويض الشهداء من المقاتلين بآخرين من قبائلهم وهكذا لايتأثر الدور كثيراً لفقد الشهداء، فبعد كل معركة يتم حصر الشهداء وإلى أي القبائل ينتمون ثم يرسل إلى كل قبيلة العدد الذي يجب أن تعوضه عن شهدائها، وإذا لم تجد العدد المطلوب تدفع لقيادة الجهاد 1000 فرنك عن كل شهيد لكي يجند بها العدد اللازم.

3- تتبارى مجموعات القبائل في تقديم البطولات والتضحيات حتى لاتكون موضع سخرية واستهزاء أمام بقية القبائل، وكان المجاهد الليبي يغضب غضباً شديداً ويحزن إذا فاته الإشتراك في إحدى المعارك أو تخلف عنها لسبب من الأسباب، وابراهيم الفيل العريبي نموذج لهؤلاء فقد فاته أن يشارك في معركة بلال فحزن حزناً شديداً، إلا أن قادة الجهاد طمأنوه وقالوا له: إن أيام الجهاد كثيرة، وفي اليوم التالي جرت معركة البريقة فاشترك فيها وهجم بفرسه على سيارات الأعداء وصار يقاتل حتى أكرمه الله بالشهادة.

4- يسهل على كل دور توفير الحماية اللازمة لذويه عن طريق الدوريات، والرباطات التي تراقب تحركات القوات الإيطالية أو أية تحركات غير عادية لمعرفتهم بمسالك المنطقة ودروبها وأماكن المياه بها، فعندما يحل الدور بمنطقة ما يضع دورية في كل اتجاه لتراقب وضع القوات الإيطالية في تلك المنطقة وتغطى أخبار تحركاتها للمجاهدين أولاً بأول حتى يكونوا على علم باتجاه وتحركات العدو، وحين يلتقي أفراد الدورية بالأعداء يطلقون ثلاث اطلاقات وعند سماع تلك الإطلاقات يستعد الجميع لملاقاة الأعداء في الجهة التي سمع منها اطلاق الرصاص.

كما تقوم دوريات أخرى تعرف باسم (الرباط) بمراقبة الإيطاليين في مراكزهم التي يحتلونها للحصول على معلومات عن تحركاتهم عن طريق الأهالي الموجودين داخل تلك المدن، وكثيراً مايتعرض بعض هؤلاء الأهالي بسبب تعاونهم مع المجاهدين لعقوبة الإعدام، كما حدث مع سليمان بن سعيد العرفي الذي أدانته المحاكم الإيطالية بالتعاون مع المجاهدين وحكمت عليه بالإعدام، فأعدم شنقاً.

كان نظام الأدوار يقوم على أساس قبلي ويعتبر الدور وحدة عسكرية وإدارية، واجتماعية يرأسها قائمقام، وتتمثل فيه السلطة الإدارية والعسكرية يساعده قوماندان (قائد) أو أكثر حسب حجم الدور والقبائل المنضوية تحته.

وقد استخدم عمر المختار النظام العسكري العثماني، فبالإضافة إلى القائمقام والقوماندان هناك الرتب الآتية:- بكباشي - يوزباشي - ملازم أول - ملازم ثاني - كوجك ضابط (ضابط صغير) باش شاوش - شاوش - أمباشي.

وكانت الترقيات تتم على أسس ميدانية بناء على مايقدمه الشخص من أعمال وبطولات في ميادين المعارك والمواقف الدقيقة، إذ يرفع إلى عمر المختار تقرير من الرئيس المباشر بشرح الحالة التي استحق عليها المعني الترقية، ويصدر بذلك أمر كتابي من عمر المختار على بقية المجاهدين.

وكان هناك مجلس أعلى يرأسه المختار يتكون من: يوسف بورحيل، حسين الجويفي، الفضيل بوعمر، محمد السركسي، موسى غيضان، محمد مازق، محمد العلواني، جربوع سويكر، قطيط الحاسي، رواق درمان وفي حالة غياب عمر المختار يرأس المجلس يوسف بورحيل.

وكان لكل من الأدوار مجلس يتكون من مشائخ القبائل وأعيانها من المعروفين بالحكمة وسداد الرأي: ومهمة هذا المجلس استشارية وهو في حالة انعقاد دائم لمواجهة الطوارئ والاسهام في حل المشاكل التي قد تحدث بالدور.

معركة أم الشافتير (عقيرة الدم):

استمر المجاهدون في الجبل الأخضر يشنون الهجمات على القوات الإيطالية وحققوا انتصارات رائعة من أشهرها موقعة يوم الرحيبة بتاريخ 28 مارس 1927م جنوب شرقي المرج قرب جردس العبيد ووقعت بعد معركة الرحيبة معارك ضارية في بئر الزيتون 10 محرم 1335هـ، 10 يوليو 1927م، وراس الجلاز 13 محرم 1335هـ، 13 أكتوبر 1927م.

أراد الإيطاليون أن ينتقمون لقتلاهم في معركة الرحيبة، فشرعت تعد العدة للانتقام لقتلاها الضباط الستة وأعوانهم المرتزقة البالغ عددهم (312) في محاولة لإعادة معنوياتهم المنهارة نتيجة لتلك الهزيمة الساحقة تمّ اعداد الجيوش الجرارة، لتتخذ من الجبل الأخضر قاعدة لها على النحو التالي:

1- الجنرال مازيتي القائد العام للقوات الإيطالية قائداً لإحدى الفرق فوق الجبل الأخضر 8 يوليو من مراوة:

أربع فرق أرترية - فرقة ليبية - أربع فرق - خيالة - بطارية ارترية.

2- الكورنيل اسبيرا إنذائي: 8 يوليو من الجراري (جردس الجراري) أوجردس البراعصة أربع فرق أرترية - فرقة ليبية - بطارية ليبية - فرقة غيرنظامية.

3- الكورنيل منتاري: 8 يوليو من خولان - فرقة أرتريا- فرقة غير نظامية.

4- الماجور بولي: 9 يوليو غوط الجمل - فرقة مهما ريستا - فرقة سيارات مصفحة - نصف فرقة ليبلير - فصيلين قناصة على الدبابات.

ويضاف الى تلك الاستعدادت سلاح الطيران الذي انطلق من قواعده بالمرج ومراوه وسلنطة.

لقد كانت قوات الايطاليين ضخمة مما تدلنا على خوفهم ورهبتهم من قوات المجاهدين.

كان عدد المجاهدين مابين 1500 الى 2000 مجاهداً منهم حوالي 25% من سلاح الفرسان ويرفقهم حوالي 12 ألف جمل ومايثقل تحركاتهم من النساء والاطفال والشيوخ والأثاث علمت ايطاليا بواسطة جواسيسها بموقع المجاهدين في عقيرة ام الشفاتير فارادت أن تحكم الطوق على المجاهدين فزحفت القوات الايطالية نحو العقيرة بعد مسيرة دامت يومين كاملين واستطاعت أن تضرب حصاراً حول المجاهدين من ثلاث جهات، وبقوات جرارة تكونت من حوالي (2000) بغل و5000 جندي، 1000 جمل بالاضافة الى السيارات المصفحة والناقلة.

علم المجاهدون بذلك وأخذوا يعدون العدة لملاقاة العدو فأعدوا خطة حربية وقاموا بحفر الخنادق حول أطراف المنخفض ليستتر بها المجاهدون وخنادق اخرى لتحتمي بها الأسر من نساء وأطفال وشيوخ، وتم ترتيب المجاهدين على شكل مجموعات حسب انتمائهم القبلي ووضعت أسر كل قبيلة خلف رجالها المقاتلين، وكان قائد تلك المعركة التقي الزاهد الورع الشيخ حسين الجويفي البرعصي وكان عمر المختار من ضمن الموجودين في تلك المعركة.

كان الشيخ حسين الجويفي ممن تجرد للجهاد في سبيل الله وطلب رحمة الله تعالى وكان يقول: (أنا لا أريد قيادة ولا منصباً بل أريد جهاداً رغبة في ثواب الله تعالى).

كان ذلك الصنديد محل تقدير من قبل إخوانه قال في حقه قائده الأعلى عمر المختار عقب استشهاده: أتذكر حسين الجويفي عند اللقاء مع العدو أو عند قراءة القرآن الكريم وقت الورد.

كما عرف عنه انه لم يبرح فرسه يوماً أثناء المعركة لينال من اسلاب العدو، بل يتركها للمجاهدين لعفته وقناعته بما يملك من أموال ومواشي.

لقد أسندت إليه قيادة المعركة لمعرفته بشعاب ودروب المنطقة التي كان يسكنها مع كونه احد قادة الجهاد، وأحد المستشارين لعمر المختار، وقائمقام البراعصة والدرسة في فترة سابقة، فكان في تلك المعركة فوق جواده يجوب الميمنة والميسرة والقلب وهو عاري الرأس لايخشى الموت يوزع صناديق الذخيرة على المقاتلين تارة ويطلق عبارات التشجيع مرة أخرى، ويقوم بتحريك جبهات القتال، وتنظيم هجومات المجاهدين، وترتيب صفوفهم.

وسقط الشهداء واشتدت المعركة ، وارتفعت درجة حرارة البنادق بسبب استمرار اطلاق العيارات النارية واستعمل المجاهدون الخرق البالية لتقيهم حرارة مواسير البنادق التي لا تطيقها يد المجاهد. وكان بعض المجاهدين يملك بندقيتين يستعمل الواحد مدة ثم يتركها حتى تبرد ويتناول الاخرى، .

وخصص القائد حسين فرقة من المجاهدين للتصدي للمصفحات المهاجمة من الجنوب وعددها ثلاثون مصفحة ولعب كومندار طابور المعية المجاهد سعد العبد السوداني دوراً بارزاً وأظهر شجاعة نادرة بأن قاد تلك الفرقة المواجهة للمصفحات الايطالية وتمكن من تدمير أغلبها مع رجاله وانتزع المجاهد رمضان العبيدي العلم الايطالي من على أحد المصفحات ، وبدأ الجيش الايطالي في التقهقر ودخل الرعب نفوس ضباطه وجنوده الذين وجدوا فرصة الحياة في الهروب وبالرغم من قصف الطائرات إلا أن الايمان القوي ، واحتساب الأجر عند الله كان دافعاً مهماً لدى المجاهدين.

كانت خسائر المجاهدين في الارواح 200 شهيد من بينهم القائمقام محمد بونجوى المسماري الذي استشهد في اليوم الثالث أثر اصابته بجرح مميت، وكانت له مكانة عظيمة في نفوس المجاهدين ووالد زوجة عمر المختار الذي بكاءه بكاءً حاراً وقال بعد أن سمع باسشهاده (راحو الكل ياعين الجيران وأصحاب الغلا).

واستشهد كل من جبريل العوامي، وستة من قبيلة العوامة، ومحمد بو معير الدرسي والشلحي الدرسي، ومحمد الصغير البرعصي وفقد المجاهدون في تلك المعركة عدداً كبيراً من الابل والمواشي وتم حرق بعض الخيام من جراء الغارات الجوية.

ومكث المجاهدون طيلة الليل يدفنون الشهداء وينقلون الجرحى، وقبل بزوغ الفجر رحلوا عن ذلك الموقع، بهدف الاعداد والاستعداد للقاء العدو في موقع جديد من مواقع القتال واصبحت القوات الإيطالية كما يقول تيروتسي : (أصبحت الآن منهوكة القوى تخور إعياء من شدة المعارك المستمرة منذ فترة طويلة دون توقف...).

وكانت نتائج تلك المعركة فيما يلي:

1.كانت معركة ام الشفاتير بداية نقطة فاصلة في اتباع استراتيجية جديدة عند عمر المختار، وهي ضرورة إعادة تنظيم المجاهدين على هيئة فرق صغيرة، تلتحم مع العدو عند الضرورة، وتشغله في أغلب الأوقات مما يقلل في عدد الشهداء أثناء المعارك ويلحق الخسائر الفادحة بالأعداء وفق التكتيك الجديد لحرب العصابات (اهجم في الوقت المناسب وانسحب عند الضرروة).

2.لمح عمر المختار بنظره الثاقب ملامح السياسة الفاشستية الجديدة وهي الابادة والتدمير (للمصالح والرجال)، فاتخذ اجراءات ترحيل النساء والاطفال والشيوخ الى السلوم لحمايتهم من الغارات الجوية الايطالية ، وتيسيراً لسهولة تحرك المجاهدين وفق مايتطلبه الموقف الجديد.

3.كما سُمَحَ لأحد الاخوين بالهجرة للمحافظة على وريث لهما فيما بعد حتى يكون دائماً هناك من يطالب بحقوقه ويزعج المستعمرين الطليان، وللتعريف بالقضية الليبية بتلك البلدان ونتج عنه فيما بعد تشكيل الجاليات الليبية في الخارج.

4.أيقن الايطاليون أنه لاجدوى من الاستمرار في العمليات العسكرية ضد المجاهدين، مما كان سبباً في توقفها طلية سنة 1928م. لقد تحققت لموسليني ماقله من قبل : ( اننا لانحارب ذئاباً كما يقول غراتسياني بل نحارب أسوداً يدافعون بشجاعة عن بلادهم ..إن أمد الحرب سيكون طويلاً).

استشهاد حسين الجويفي والمختار بن محمد في معركة ابيار الزوزات 13/8/1927م :

استشهد الشيخ حسين الجويفي رئيس دور البراعصة، وكان صاحب مكانة عظيمة عند المختار، كان حسين الجويفي سباقاً للخيرات، حريصاً على الشهادة في سبيل الله، وكان يحرص على الخروج للمعارك مع مرضه حتى أن عمر المختار في احدى المعارك طلب منه أن يبقي حفاظاً على صحته وقال له (الجايات اكثر من الفايتات) والطليان لايبطلوا لمحاربتنا ونحن لانبطل الهجوم عليهم وستشبع من القتال فأيامه كثيرة.

لقد تأثر عمر المختار لاستشهاد القائد العظيم الجويفي ووقف عند قبره وقال:

شهير لَسَم وَافِ الدين

تمَّا غفير في فاهق خلا

لقد فقد عمر المختار عدداً كبيراً من رفاقه الابطال الذين وقعوا شهداء في ساحة الوغى وكان من بينهم المختار ابن شقيقه محمد فشق عليه فقده رغم انه لا يزيد مكانة عند عمه السيد عمر المختار أكثر من إخوانه المجاهدين، لقد كان ابن أخيه عائلاً له يهتم بشؤون أسرة عمر المختار ويشرف على شؤونه الخاصة وخدمته الشخصية وكان بمثابة الابن حيث لم يكن لعمر ابن يتولى شؤون العائلة لأن ابنه الوحيد محمد صالح كان لايزال طفلاً، ثم إن السيد عمر المختار تعود مصاحبة الفقيد منذ سنة 1916م والى جانب كل ذلك فإنه من أبطال الجهاد ومن الابناء البررة. لقد احتسب المختار وأظهر التجلد وصبر صبراً جميلاً وكان يقول لكل من جاء لتعزيته:

إن كل فرد من رفاقي المجاهدين هو عندي بمنزلة المختار. إنني فقدت مختاراً واحداً ، ولكنني أعيش بين عدداً من المختارين كل منهم يملأ مكان ابن اخي وردد قول الشاعر الشعبي:

الدنيا أمفيت الله من واليها

وين الصحابا قبلنا أو نبيها

ويــــن بــــون يـــــادم

وين الشيوخ اللي كبار مقاوم

اللّي يندهوا للعبد هو والخادم

وَنْ جاهم الطالب حاجتا يقضيها

في سبتمبر عام 1927م غزت جموع الزوية الجخرة ومرسى بريقة وجالو وأوجلة، وأنزلوا بالطليان خسائر فادحة، واشتدت مقاومة المجاهدين في الجبل الأخضر على الرغم من احتلال الطليان للواحات ومراكز السنوسية الهامة، فلم يعد هناك مناصا من أن يعيد الطليان النظر في خططهم، مما أدى إلى وقوع أزمة كبيرة في روما، وبدأت الحكومة تبحث بصورة جدية وسائل إخماد المقاومة وترسم الخطط السياسية الجديدة التي ترأى ضرورة التقيد بها في كل من برقة وطرابلس، وقد اضطر فيدرزوني وزير المستعمرات، وديبونو والي طرابلس وتيروتزي والي برقة للاستقالة في ديسمبر 1928م، فعين ديبونو وزيراً للمستعمرات وأعلن موسوليني توحيد الإدارة في القطرين الليبيين، وعين الماريشال بادوليو حاكماً على طرابلس وبرقة.

كان مجئ بادوليو إلى ليبيا بداية مرحلة الجهاد الحاسمة بالنسبة للمجاهدين وكان تاريخ تعيينه في شهر يناير من عام 1929م وكان برنامجه الجديد يتلخص في تخفيض الجيش إلى القدر الذي يكفي للقيام (بحرب العصابات) والمحافظة على على هيبة الحكومة مع انفاق الأموال المتوفرة في مد الطرق في الجبل الأخضر مما يسهل عليه التنقلات العسكرية، فإذا ما أتم له ذلك قام بهجوم شامل كاسح على المجاهدين يقضي على المقاومة نهائياً، ومن أجل ذلك سعت إيطاليا إلى مفاوضة السيد عمر المختار لتهدئة الأحوال، فكان برنامج بادوليو مبنياً على كسب الوقت أولاً ثم العمل رويداً رويداً من أجل تقوية المراكز المحتلة.

واهتم بادوليو بكسب الرأي العام وتخويفه، فأعلن العفو عن الأفراد الذين يسلمون أنفسهم وسلاحهم مختارين للحكومة، ويتوعد كل معاند بالعقوبة الصارمة وقد اسقطت الطائرات هذا المنشور من الجو على البلدان والقرى والنواجع في أنحاء ليبيا جميعها وكان لهذا المنشور آثار مباشرة، فظن بعض زعماء ليبيا بمدينة طرابلس الضعف ووهن العزيمة في الحكومة وقام أحمد سيف النصر ومحمد بن الحاج حسن (من قبيلة المشاشة) بالزحف على منطقة القبلة لجمع البدو المحاربين وإرسالهم إلى الجبل الأخضر حتى يعززوا قوات المجاهدين في الجبل ويرغموا الحكومة على اتخاذ لهجة متواضعة عند بدء المفاوضات مع عمر المختار وصحبه، وشرع صالح الأطيوش ينظم في جبل الهروج جماعات من المحاربين للاشتباك مع الطليان في برقة أو في طرابلس وفي منتصف فبراير 1929م نزلت قوات المجاهدين من الهروج الأسود للانقضاض على النوفلية من جانب وعلى إجدابية من جانب آخر، فاجتمعت من الجيفة ثم انقسمت ثلاث فرق التحمت إحداها مع الطليان في معركة عند قارة سويد في 5 مارس، واشتبكت الثانية معهم في معركة كبيرة عن النوفلية في 14 مارس واتجهت الثالثة بقيادة عبدالقادر الأطيوش من الجيفة صوب منطقة العقيلة في 23 مارس، ثم استقر المجاهدون في جبل سلطان واضطر المجاهدون إلى الانسحاب أمام قوات العدو العظيمة صوب وادي الفارغ.

كانت لتلك الأعمال أكبر الأثر في إقناع بادوليو بضرورة العمل فوراً من أجل استمالة المجاهدين إلى المفاوضة إذا أراد أن يضع برنامجه الواسع موضع التنفيذ فبدأ من ثم متصرف المرج الكولونيل باريلا من أوائل مارس 1929م يطلب الاجتماع بالسيد عمر المختار للمفاوضة في شروط الصلح، وحدد باريلا موعداً للاجتماع غير أن باريلا لم ينتظر جواب المختار وأراد أن ينتهز فرصة اطمئنان المجاهدين لقرب بداية المفاوضات وانشغالهم بعيد الفطر المبارك، فانقض الطليان على المجاهدين وهم يقومون بصلاة العيد (1347هـ) وردهم المجاهدون على أعقابهم، ولكن مناوشات صالح الأطيوش وجماعته ونشوب المعارك المستمرة اضطرت بادوليو إلى تحديد المسعى، فكلف متصرف درنة دودياشي لتمهيد المفاوضة مع عمر المختار وصحبه، فاتصل بالمجاهدين واقترح على السيد عمر أن يكون الاجتماع يوم 2 مارس في منزل علي باشا العبيدي للبحث في موضوع الصلح وأصر عمر المختار على أن تظهر الحكومة الإيطالية حسن نواياها ويكون ذلك بإطلاق السيد محمد الرضا وإعادته إلى برقة واضطرت الحكومة الإيطالية للرضوخ واحضرت السيد محمد الرضا من جزيرة أوستيكا إلى بنغازي واجتمع بعد ذلك عمر المختار مع مندوب الحكومة دودياشي في منزل على العبيدي في 20 مارس، وحضر الاجتماع عدد كبير من مشايخ البلاد وأعيانها ثم أجلت المفاوضة إلى أسبوع وانعقد اجتماع آخر في سانية القبقب ولم يستطيع المتفاوضون الوصول إلى نتيجة مجدية، واجتمع المختار مع باريلا في الشليوني في الجبل الأخضر في يوم 6 إبريل ولم يصل المتفاوضون إلى نتيجة وفي 20 إبريل عادت المباحثات في بئر المغارة (في وادي القصور)، وقد حضر هذا الإجتماع محمد الرضا والشارف الغرياني، وخالد الحمري، وعبدالله فركاش ورويفع فركاش وعلي باشا العبيدي وعبدالله بلعون مدير المرج، وحضر كل هؤلاء اجتماع المختار بالسيد رضا، ثم خير مندوب الحكومة عمر بين ثلاثة أمور:

الذهاب إلى الحجاز، أو إلى مصر، أو البقاء في برقة، فإذا رضي بالبقاء في برقة أجرت عليه الحكومة مرتباً ضخماً وعاملته بكل احترام ولكن المختار رفض هذه الشروط وكان السيد رضا يخضع لرقابة صارمة منعته من تبادل الرأي مع عمر المختار.

واستؤنفت المفاوضات في هذه المرة في مكان يسمى قندولة بالقرب من سيدي رويفع وحضر اجتماع قندولة باريلا، وكمباني وعدد من الضباط والأعيان وكان سيشلياني قد بيت النية على الإيقاع بالمختار وأسره، ولكن عمر المختار احتاط للأمر ولم يسفر هذا الإجتماع عن شيء.

وفي 26 مايو بدأت المفاوضات من جديد، فحضر المختار إلى مكان قريب من القبقب. وفي هذا الإجتماع دارت المباحثات على أساس ماجاء في منشور بادوليو فعرض دودياشي شروط الحكومة وهي (أولاً) عودة السيد إدريس، وأحمد الشريف والسيد صفي الدين وسائر أعضاء الأسرة السنوسية إلى البلاد على أن يكونوا تحت إشراف الحكومة وأن يتم رجوعهم بترخيص من الحكومة بوصفهم مهاجرين يبغون العودة إلى أوطانهم وتعهدت الحكومة بعاملتهم المعاملة اللائقة بهم على غرار ماتفعله مع السيد الرضا.

ثانياً: احترام الزوايا وأوقافها ودفع المرتبات لشيوخها.

ثالثاً: إرجاع أملاك الأسرة السنوسية.

رابعاً: إعفاء الزوايا وأملاك السنوسية من الضرائب.

خامساً: تسليم المجاهدين نصف مامعهم من أسلحة لقاء ألف ليرة إيطالية تدفع ثمناً لكل بندقية يسلمونها، وعلى أن ينضم بقية المجاهدين المسلحين إلى المنظمات التي تنشئها الحكومة تحت إشرافها وإدارتها وذلك لمدة معينة تحددها الحكومة فيما بعد في نظير أن تعد أماكن لإقامتهم يسهل على الحكومة إمدادهم فيها بالمؤن فضلا عن إحكام الرقابة عليهم.

سادساً: إبعاد كل الإخوان السنوسيين من الأدوار وتتعهد الحكومة بإعطائهم المرتبات التي تناسب مراكزهم، فاعترض المختار على تسليم الأسلحة وحل الأدوار، وأصر على بقاء الأدوار تحت قيادة السيد حسن الرضا على أن يكون للحكومة نوع من الإشراف العام فحسب وأيد رأي المختار عبدالحميد العبار، ورفض دودياشي عروض المختار وانفض الإجتماع على أن يعرض دودياشي هذا الحل - كما طلب المختار من نائب الوالي في برقة حتى يفصل فيه سيشلياني بنفسه.

وبعد أربعة أيام فقط طلب دودياشي مقابلة المختار في قندولة (30مايو) فجاء المختار إلى نجع علي العبيدي شيخ العبيدات بالقرب من القبقب، وحضر معه السيد حسن الرضا والفضيل بو عمر وعبدالحميد العبار وحامد القماص وآخرون ومعهم حرس يتألف من مائة وخمسين فارساً وجاء من طرف الحكومة دودياشي وباريلا كما حضر هذا الاجتماع علي العبيدي وخالد الحمري ورويفع فركاش، وأظهر فيها المختار استعداده للتفاهم طالما أنه يؤدي إلى المحافظة على كرامة السنوسية. وفضلاً عن ذلك فقد أصر المختار على عدم حدوث أي اتفاق بينه وبين الحكومة الإيطالية إلا إذا حضر مندوب عن الحكومة المصرية وآخر عن الحكومة السنوسية كدليل على رغبة الطرفين الصادقة في الاتفاق بصورة قاطعة ولكن دودياشي اعترض على هذا الطلب، وقال بأن الطليان معروفين بوفائهم للعهود وحفظهم للمواثيق، فرد عليه عمر المختار وذكر مافعله الجنرال متزتي بقبيلة العبيدات، وهي من القبائل التي سالمت الطليان، عندما اغتصب هؤلاء كل ماتمتلكه هذه القبيلة حتى انهم نزعوا حلي النساء من آذانهن، وذكر مافعله لويللو مع أسرة إبراهيم من قبيلة العواقير، وقد سالم هؤلاء الطليان كذلك، فأخذ لويللو منهم أربعين رجلاً قتلهم رمياً بالرصاص ثم جعل السيارات تمر على جثثهم (فما زالت السيارات تدهسهم ذهاباً وإياباً حتى اختلطوا بالتراب وتدخل بعض الحاضرون لتهدئة الموقف وتمسك المختار بحقوق الحركة السنوسية وزعامتها وأصر على أن يكون للقطر البرقاوي الطرابلسي نفس الامتيازات التي تتمتع بها جاراته مصر وتونس وكان عمر المختار وحده هو الذي يتحدث، وأما سائر المجاهدين فقد صمتوا ثم قرر الذهاب إلى معسكره وقال إذا أراد المتصرف دودياشي الحديث فإن موعد ذلك جلسة أخرى، وبعد أيام اتصل علي العبيدي بالسيد عمر، وقبل عمر المختار استئناف المفاوضة، فعقد اجتماع آخر في يوم 7 يونيه حضره دودياشي وباريلا ثم سيشلياني الذي جاء الاجتماع موفد من قبل الماريشال بادوليو بغية الوصول إلى اتفاق حاسم مع العرب، وجدد الطليان عروضهم القديمة وتمسك المختار بمطالبه، وأصر على حضور مندوبين من قبل الحكومتين المصرية والتونسية ووعد سيشلياني بأن يحمل مطالب المختار إلى بادوليو. وفي 13 يونيه اجتمع نائب الوالي سيشلياني بالسيد عمر في قلعة شليوتي، وأظهر المختار رغبته الصادقة في الاتفاق إذا أقرت الحكومة الإيطالية مطالبه، وهي نفس المطالب السابقة وتأجل الاجتماع إلى يوم آخر حتى يتم الاتفاق النهائي بحضور والي طرابلس وبرقة نفسه وفي يوم 19 يونيه حصل الاجتماع سيدي رحومه المشهور بحضور بادوليو وسيشلياني وعدد من الطليان والأعيان كالشارف الغرياني، وعلي باشا العبيدي، وظل عمر المختار متمسكاً بضرورة حضور مندوبين عن الحكومتين المصرية والتونسية وعرض شروطه النهائية بحضور والي ليبيا، فقرأ الفضيل بو عمر هذه الشروط ووافق الطليان عليها، ثم تسلمها بادوليو ووعد بأن يعمل على حضور مندوبي الحكومتين المصرية والتونسية في اجتماع يحدد فيما بعد قريباً، واتفق الفريقان على عقد هدنة لمدة شهرين حتى يتسنى لكل منهما مراسلة مرجعه. وقال بادوليو إنه على استعداد تام لقبول عودة أمير البلاد السيد محمد إدريس إلى برقة مادام المختار والمجاهدون يصرون على ذلك.

وكانت الشروط التي عرضها المختار تكفل المحافظة على هوية الشعب وعقيدته ودينه ولغته، وتحفظ أوقاف الزوايا وتعطي عمر المختار الحق في أخذ الزكاة الشرعية من القبائل ومن أهم هذه الشروط:

1- أن لاتتدخل الحكومة في أمور ديننا، وأن تكون اللغة العربية لغة رسمية معترفاً بها في دواوين الحكومة الإيطالية.

2- أن تفتح مدارس خاصة يدرس فيها التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، وسائر العلوم.

3- وأن يلغى القانون الذي وضعته إيطاليا والذي ينص على عدم المساواة في الحقوق بين الوطني والإيطالي إلا إذا تجنس الأول بالجنسية الإيطالية كما كانت شروط المجاهدين تنص على إرجاع جميع الممتلكات التي اغتصبتها الحكومة من الأهالي وإعطائهم مطلق الحرية في حمل السلاح وجلبه من الخارج إذا امتنعت الحكومة عن بيع السلاح لهم، كما نصت هذه الشروط على أن يكون للأمة رئيس منها تختاره بنفسها ويكون لهذا الرئيس مجلس من كبار الأمة له حق الإشراف على مصالحها، كما يكون للقاضي الإسلامي وحده الفصل بين المسلمين وطالب عمر المختار بإعلان العفو الشامل عن جميع من عدتهم إيطاليا مجرمين سياسيين سواء كانوا داخل ليبيا أم خارجها، وإطلاق سراح المسجونين، وسحب كل المراكز التي استحدثها الطليان في أثناء الحرب بما في ذلك مراكزهم في الجغبوب وجالو كما اشترط بأن لزعماء المسلمين الحق في تأديب من يخرج عن الدين أو يهزأ بتعاليمه أو يتهاون في القيام بواجباته. إن حرص عمر المختار على رفض الخضوع لأي إرادة أو سلطة غير سلطة الله واضح في حياته، ويظهر ذلك جلياً في شروطه، فقد كان دائماً مصراً على شرط تطبيق الشريعة الإسلامية بين المسلمين ورفض كل ماعداه من قوانين وضعية في مفاوضاته. أظهر بادوليو قبول الشروط ولكنه نكث بوعوده وأخذ يستعد للقضاء على المجاهدين، وشرع الطليان يبذرون بذور الشقاق في صفوف المجاهدين على أمل أن يضعفوا من قوتهم، وفي اجتماع سيدي رويفع ادعى سيشلياني أنه لايمكن إبرام الاتفاق النهائي إلا في بنغازي

أراد المجاهدون أن يقطعوا حجة الطليان فاتفقوا على أن يحضر اجتماع بنغازي السيد الحسن رضا السنوسي، وكان عمر المختار مقتنعاً بعدم جدوى الاجتماع ولكنه اضطر مكرهاً، وعاد الحسن يحمل شروطاً إيطالية مجحفة فرفضها عمر المختار والمجاهدون، وكتب المختار إلى نائب الوالي يخبره برفض الشروط الإيطالية جملة وتفصيلاً، ويلفت في هذه الرسالة نظر الحكومة الإيطالية إلى الشروط السابقة التي تسلمها المارشال بادوليو من السيد عمر نفسه وقطع على نفسه عهداً بالإجابة عنها بعد دراستها إذ لايوجد سبيل لحل المشكلة بدونها، وطلب عمر في نفس الرسالة تحديد موعد لمقابلة الجنرال سيشلياني نائب الوالي، وفي حالة الرفض أو عدم الإجابة يكون السيد عمر المختار في حل مما قيدته به آداب المجاملة في انتظار نتيجة المفاوضات وسوف تعود الأمور لما كانت عليه، وكان جواب إيطاليا هو أنها على استعداد ولاداعي للإنذار بإعادة الحرب.

لما ذهب الحسن بن الرضا إلى بنغازي تأثر ببعض أقوال الليبيين التابعين للحكومة الإيطالية وقبل أن يوقع على شروط الصلح التي خالفت ماطلبه المجاهدون، فلما رفض عمر المختار تلك الشروط عز على الحسن أن ينقض المختار كلمته وانفصل بجماعته من البراعصة والدرسة، وكانوا يبلغون حوالي الثلاثمائة واتخذ مكانه في غوط الجبل وهو مكان قريب من مراكز الطليان في مراوة.

كان عمر المختار بجانب إيمانه الراسخ واسع الأفق عالماً بواقعه مدركاً لما يجري حوله متابعاً له وقد كان ذلك أكبر عون له بعد الله على صحة مواقفه وقوتها التي فرضت الاحترام على اعدائه قبل أصدقائه، وما أعظم أن يجتمع الإيمان والفقه بالواقع، وما أقبح أن يتفرقا، ولئن كان هذا واضحاً جلياً في كل المواقف التي خاضها عمر المختار رحمه الله وآرائه التي قالها إلا إنه يتجلى كأوضح مايكون في إدراكه لعدم جدوى المفاوضات السياسية.

النداء الأخير :

خاطب السيد عمر المختار المجاهدين وأبناء شعبه قائلا: فليعلم إذاً كل مجاهد أن غرض الحكومة الإيطالية إنما بث الفتن والدسائس بيننا لتمزيق شملنا وتفكيك أواصر اتحادنا ليتم لهم الغلبة علينا واغتصاب كل حق مشروع لنا كما حدث كثير من هذا خلال الهدنة، ولكن بحمد الله لم توفق إلى شيء من ذلك. وليشهد العالم أجمع أن نوايانا نحو الحكومة الإيطالية شريفة، وما مقاصدنا إلا المطالبة بالحرية وإن مقاصد إيطاليا وأغراضها ترمي إلى القضاء على كل حركة قومية تدعو إلى نهوض الشعب الطرابلسي وتقدمه ... فهيهات أن يصل الطليان إلى غرضهم مادامت لنا قلوب تعرف أن في سبيل الحرية يجب بذل كل مرتخص وغال، ثم ختم المختار هذا النداء بقوله: (لهذا نحن غير مسؤولين عن بقاء هذه الحالة الحاضرة على ماهي عليه حتى يتوب أولئك الأفراد النزاعون إلى القضاء علينا إلى رشدهم ويسلكوا السبيل القويم ويستعملوا معنا الصراحة بعد المداهنة والخداع. وقد نشرت بعض الصحف المصرية هذا النداء في 2 يناير 1929م. من كان عبداً لله يستحيل أن يرضى بأن يكون عبداً لحكومة ظالمة كافرة أو لدنيا أو مال أو لهوى، فأكثر الناس أحراراً وتحقيقاً للحرية على مفهومها الصحيح ذلك العبد الذي رضى بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد e نبياً ورسولاً.

غدر وخيانة :

لقد نقضت الحكومة عهودها وغدرت بالمجاهدين وكان السيد حسن الرضا أول من ذاق مرارة غدرهم، فقد غادر المعسكر في غوط الجبل جماعة من عائلة عريف وانتهز الطليان هذه الفرصة فطلبوا من الحسن أن يتقدم بالدور إلى ناحية مراوة وأجاب الحسن رغبتهم وعندئذ سيرت الحكومة قوة كبيرة على الدور لجمع الأسلحة من أتباعه بدعوى أن رجاله قد (غزوا) بعض الأهلين في مراوة. وأبدى الحسن ورجاله معارضة شديدة، ولكن معارضتهم هذه سرعان ما أكدت للطليان - على حد قول هؤلاء - أن الدور كان مركزاً لدعاية سنوسية خطيرة، وأن حل الدور قد بات لذلك أمراً لامناص منه ولامحيد عنه، وكان مما جعل الطليان ينقلبون على الحسن أن امتنع في المدة الأخيرة عن إجابة رغبتهم عندما طلبوا منه الانتقال إلى بنغازي، وعلى ذلك فقد اشتبكت القوات الإيطالية مع الدور في قتال عنيف ذهب ضحيته كثير من المجاهدين ووقع الباقون في أسر هذه القوات وفي 10 يناير 1930م قبض الطليان على الحسن نفسه وساقوه أسيراً إلى بنغازي ثم مالبثوا حتى نفوه إلى جزيرة اوستيكا ثم إلى فلورنسه بعد ذلك. وقد بقى الحسن منفياً بهذه المدينة الأخيرة حتى وفاته في عام 1936، وبعد ذلك اندلعت المعارك بين المجاهدين والطليان في الجبل الأخضر وكانت الطائرات الإيطالية تلقي قذائفها على معسكرات المجاهدين ونشطت عمليات الطليان العسكرية بعد أن غدروا بالحسن وهاجموا دور المجاهدين في وادي مهجة (28 يناير 1930) وألقت الطائرات قذائفها على العرب، وانتشرت المعارك في منطقة الجبل حتى أقفلت جميع الطرق.

تعيين الجنرال غراسياني حاكماً لبرقة ونائباً للمرشال بادوليو الحاكم العام

كان الجنرال غراسياني عند قومه معظماً ومقدماً وقد قام بأعمال عسكرية في فزان شنيعة للغاية واستطاع أن يقضي على حركة الجهاد في فزان بدخوله غات في 25 فبراير 1930م وكان نصرانياً حقوداً على الإسلام والمسلمين لم يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة.

بعد بقائه في ليبيا لمدة تسع سنوات متتالية وبعد احتلاله الغاشم لفزان، دعى إلى إيطاليا لتشريفه وتكليفه.

ذكر في مذكراته وداعه لطرابلس فقال: (وداعاً طرابلس أرض آلامي وعذابي، غير انه تبقى في روحي، وداخل نفسي ذكريات كل حجر مرتفع في جبالك، وفي صحرائك الواسعة، ولكن لن ينطفئ أبداً ألمي وعذابي من أجل افريقيا وأنت ياطرابلس.

وفي روما كانت تنتظرني الاحتفالات التي يطمع كل جندي مخلص أمين يحظى برضا وتصفيق الزعيم الدوتشي (موسليني) .. وقد نلت هذا وصفق الزعيم ومجلس الأمة الإيطالي لي في جلسة بتاريخ 21/3/1930م، هذا الاحتفاء وهذا الرضا، كان أعظم مكافأة في حياتي، فلقد جددت في نفسي حب العمل والتضحية في سبيل الواجب الكبير الذي ينتظرني في ليبيا بجسم متعب في الأعمال التي تحملها في الماضي، ولكن بالروح والقلب الحريص والحاضر للعمل.. وبعد أن استلمت التعليمات العليا سافرت على السفينة إلى برقة .. ويوم 27/3/1930م وصلت بنغازي التي غادرتها سنة 1914م خلال الحرب العالمية الأولى وكانت رتبتي ملازم أول في الجيش الإيطالي.

إن التعليمات التي صدرت عن رغبة الزعيم الدوتشي، وقسمت ونظمت من قبل صاحب السيادة دي بونو (والفريق) الماريشال بادوليو، بيتوا فيها تصميم الحكومة الفاشستية القضاء المبرم على الحركة الوطنية (الثورة) مهما كلف ذلك وبكل الطرق والوسائل لأنها القضية البرقاوية.

والتعليمات هي:

1- تصفية حقيقية لكل العلاقات بين الخاضعين وغير الخاضعين من الثوار سواء في قاعدة العلاقات الشخصية أو الأعمال والحركات التجارية.

2- إعطاء الخاضعين أمناً وحماية ولكن مراقبة لكل نشاطاتهم.

3- عزل الخاضعين عن أي تأثير سنوسي ومنع أي كائن منعاً باتاً من قبض أي مبالغ من الأعشار والزكاة.

4- مراقبة مستمرة ودقيقة في الأسواق وقفل الحدود المصرية بكل صرامة بحيث تمنع أي محاولة تموين لقوافل العدو (أي المجاهدين).

5- تنقية الأوساط المحلية التي توجد بها عناصر تدعي الوطنية ابتداءً بالمدن الكبيرة وخاصة بنغازي.

6- تعيين عناصر غير نظامية من الطرابلسيين لكي يكونوا قوة مضادة للمجاهدين وتعني بتطهير الأقليم من كل تمرد أو ثورة.

7- حركة دقيقة وخفية لكل قواتنا (الطليان) المسلحة في المنطقة لخلق جو مذبذب ضد كل (الأدوار)، والمعسكرات، والضغط عليها حتى تتكبد الخسائر وتشعر بأن قواتنا موجودة دائماً وفي كل مكان مستعدة للهجوم.

8- الاتجاه السريع للاحتلال الكامل لكل أراضي مستعمرة الكفرة.

هذا هو جزار ليبيا غرسياني الذي جاء محملاً لتنفيذ الأوامر السالفة الذكر من أسياده في روما الكاثوليكية الفاشستية الميكيافلية.

ومنذ عودة غراسياني إلى بنغازي، بدأ نائب الوالي الجديد يضع هذا البرنامج موضع التنفيذ من غير إبطاء معلناً إنه سوف : (يتبع بكل إخلاص تعاليم الدولة الفاشستية ويسير على مبادئها، لأنه وإن كان قائد من قواد الجيش وأحد الرجال العسكريين إلا أنه يدين بمبادئ فاشستية محضة ويعلن هذه الحقيقة بكل وضوح وصراحة تامة).

كان الجنرال غراسياني معروفاً بالعجرفة والطيش وبالجبروت الوهمي، وكان أول عمل قام به في الدوائر المدنية بعد وصوله هو إستبدال غالب الموظفين الإيطاليين بآخرين ممن يتمتعون بثقته عندما كان يعمل في طرابلس، كما جاء بقائد جديد للكربنير (الضابطية) هو الكولونيل كاستريوتا، وبالجنرال نازي ليكون مساعده الأول في القيادة العسكرية، واستعان بعصابة من المدنيين قد أخذوا ينفذون أهدافه الشريرة وأفكاره الشاذة بكل الوسائل ومن هذه العصابة الكمندتور موريتي (السكرتير العام) الكمندتور أجيدي متصرف لواء بنغازي، ثم بدأ زيارته للمناطق الخاضعة لنفوذ إيطاليا وكانت السلطات تجمع لاستقباله جميع الأهالي بما في ذلك النساء والأطفال والعجزة، فيخطب فيهم متوعداً ومهدداً، وكان يستفتح خطاباته الطائشة بقوله (صموا أفواهكم وافتحوا آذانكم) ليلقى الرعب في نفوس المستضعفين الذين استسلموا وخضعوا لإيطاليا وكان قد ألقى كلمة تهديدية في جموع حشدتها السلطات في موقع (البريقة) إستهلها بقوله (ما أنتم إلا مثل سيجارة موقودة من الجانبين تلتهمها النار من هنا ومن هناك حتى تصبح رماداً وهاهو ذا أنا أولع السيجارة من جانبي ويوقدها عمر المختار من جانبه حتى يؤتى عليكم).

وقال في خطاب ألقاه من شرفة قصره في بنغازي (تحت يدي وتصرفي باخرة تقف في الميناء وبأقل إشارة مني تنقل كل من أرى من الصواب نقله إلى إيطاليا وهذا أخف مانعاقب به) وفي خطاب تهديدي آخر قال: ( عندي لكم ثلاثة حالات، الباخرة الموجودة في الميناء، وأربعة أمتار فوق الأرض - مشيراً إلى أعمدة المشنقة - ورصاص بنادق جندنا - مشيراً إلى القتل رمياً بالرصاص) ، لقد قام غرسياني وحكومته بحشد المجهودات الضخمة للقضاء على عمر المختار بالصورة التي كلفت الخزانة الإيطالية في سنة واحدة مالا يقل عن النفقات التي تتكبدها دولة عظيمة لمجابهة دولة تماثلها في عدة سنوات.

فقد قال السنيور فيتيتي وكيل وزارة الخارجية في حديث له مع سماحة مفتي فلسطين الأكبر الأستاذ محمد أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا لفلسطين، وقد أورد سماحته هذا الحديث في مذكراته التي أخذت تنشرها جريدة أخبار اليوم، قال وكيل وزارة الخارجية المذكور: حقاً أن ماوقع في ليبيا سبب لنا متاعب كثيرة فعندما كانت السياسة الايطالية تتأثر في الماضي كثيراً بالسياسة البريطانية قبل عهد الفاشيست خدعتنا انكلترا وفرنسا فاستولت على أغنى وأغلى أقطار أفريقيا، وأغرتنا باقتحام ليبيا عام 1911م، فلم نجد فيها رغم الجهود المضنية والخسائر الفادحة في الأنفس والأموال غير الرصاص والرمال، ولم نجن من ذلك إلا بغض العرب ومقت المسلمين لنا.

المحكمة الطائرة:

لم يمض على وصول غراسياني سوى ايام قلائل حتى أنشاء ماعرف في تاريخ الاستعمار الايطالي الاسود باسم المحكمة الطائرة (ابريل 1930م) ، كانت تلك المحكمة تقطع البلاد على متون الطيارات وتحكم على الأهالي بالموت ومصادرة الأملاك لأقل شبهة وتمنحها للمرتزقة الفاشست وكانت تلك المحاكم تنعقد بصورة سريعة وتصدر احكامها وتنفذ في دقائق وبحضور المحكمة نفسها لتتأكد من التنفيذ قبل أن تغادر الموقع الذي انعقدت فيه لتنعقد في نفس اليوم بموقع آخر، وفتحت أبواب السجون في كل مدينة وقرية ببرقة وانتزعت الأموال من المسلمين بدون مبرر، ونصبت أعواد المشانق في كل من العقيلة، وجدابية، وبنغازي، وسلوق، والمرج، وشحات ودرنة، وعين الغزالة، وطبرق، ولأتفه شبهة وأقل فرية يصدر حكم الاعدام وينفذ في حينه شنقاً أو رمياً بالرصاص، وكان مما قتل شنقاً او رمياً بالرصاص في مدة لا تزيد عن شهرين من استلام غرسياني مقاليد الحكم في برقة؛ المشايخ بحيح الصبحي، على بويس العربي وابنه عبدربه بوموصاخ، خيرالله هليل، محمد يونس بوقادم، علي حميد ابوضفيرة، إثنان من قبيلة سعيد أشقاء حمد الرقيق، وهؤلاء من منطقة جدابية، ثم محمد الحداد وابنه بنغازي، وعبدالسلام محبوب من الاخوان السنوسين، سليمان سعيد العرفي (المرج) ، وخمسة عشر شخص بينهم الشيخ سعيد الرفادي (عين الغزالة وغيرهم كثير)

عزل المجاهدين ووضع القبائل في معسكرات الاعتقال الجماعية:

بدأ غراسياني ينفذ سياسة عزل الاهالي الخاضعين عن المجاهدين ، وشرع في جمع الاخوان السنوسيين من شيوخ الزوايا وأئمة المساجد ومعلمي القرآن بها مع ذويهم جميعاً، وكل من تربطه بأحد هؤلاء أية صلة، وكذلك بمشايخ وأعيان القبائل، وبكل من يربطه أي نوع من أنواع الصلات بأحد المجاهدين او المهاجرين، جيء بهذه المجموعات يساقون الى مراكز التعذيب ثم الى السجون ولم يشفع في أحدهم سن الشيخوخة الطاعنة، او الطفولة البريئة أو المرض المقعد، او الضرر الملازم، وانشئت معتقلات جديدة في بنينه والرجمة، وبرج توبليك وخصص غراسياني مواقع العقيلة والبريقة من صحراء غرب برقة البيضاء، والمقرون وسلوق في أواسط برقة الحمراء لتكون مواقع الاعتقال والنفي والتشريد والتعذيب لجميع سكان منطقتي الجبل الاخضر والبطنان بصورة جماعية، وبغير سكان هذين المنطقتين ممن تحوم حولهم أية شبهة، او تلفق ضدهم اقل فرية، وأمر بنقل قبائل هاتين المنطقتين المذكورتين الى هذه المعتقلات الخاصة بهم ثمانين ألفاً، وماهي في الحقيقة إلا مقابر يدفن فيها الاحياء وأداً ، فخصص معتقل العقيلة والبريقة لقبائل العبيدات والمنفا، والقطعان ، والشواعر، والمسامير،... ولبعض عائلات الاخوان السنوسيين بما في ذلك سكان الجغبوب، ولبعض من سكان مدينتي بنغازي ودرنه، واسند حكم هذين المعتقلين لممثلي الظلم والجبروت والوحشية الفظيعة لكل من كسوني، باريلا (غير باريلا متصرف المرج).

وخصص معتقلاً المقرون وسلوق لكل من قبائل البراعصة والدرسا والعرفا والعبيد وأتباعهم وشطر كبير من عائلات الاخوان السنوسييين الذين سبق أن أبعد غرسياني رجالاتهم الى ايطاليا أو فرقهم بين السجون المختلفة، جيء بهذه القبائل التي بلغ تعدادها الثمانين ألف نسمة يساقون زمراً الى المعتقلات المذكورة، فمنهم من جاءها عن طريق البحر حيث حشروا بالمراكب حشراً ومنهم من جاءها عن طريق البر بعد أن أتت إيطاليا على جميع المنقولات حرقاً بالنار، كما أحرقت الزراعة ومحصولاتها، وأهلكت الحيوانات فيما عدا ما استعملته للنقل، وأحيط القسم المساق عن طريق البر بجنود من الصوماليين والاريتريين ليتعقبوا كل من يتخلف عن المساقين الى حتفهم، ويرمى المتخلف بالرصاص ، وكان الرامي غير مسؤول عن عمله هذا، وأصبحت جميع مناطق الجبل والبطنان هلاكاً تلعب فيه الرياح.

لقد اراد غراسياني الانتقام من القبائل التي اثبتت الايام انها نعم العون للمجاهدين بعد الله، فجمع النواجع المنتشرة في منطقة الجبل الاخضر في أماكن احاطها بالاسلاك وحدث في تلك المعتقلات الجماعية مالم يصدقه بشر ولا خطر على بال انسان يعقل، لقد اشتدت المحنة واعتدى الايطاليون على الابدان والاموال والاعراض في تلك المعتقلات ولقد قام الباحث يوسف سالم البرغثي بدراسة متميزة سماها المعتقلات والاضرار الناجمة عن الغزو الايطالي وذكر فيها تفصيلاً محزناً، ووثائق تاريخية من أفواه من عاش تلك المرحلة العصيبة التي مربها شعبنا المظلوم

لقد وصف مراسل جريدة ألمانية زار معسكرات الموت التي جمع فيها غراسياني أكثر من 80 ألف نسمة فقال: إن الانتقادات التي يوجهها الآن الفرنسيين والانكليز الى خطة الفاشيست في برقة، موجهة في الدرجة الاولى الى التدابير التي اتخذها الجنرال غراسياني لإجلاء 80 ألف بدوي عن اراضيهم ، دون أن يرعوا حالة هؤلاء البدو الروحية، أو يلاحظوا تأثير مثل هذا القيد والحصار فيهم، ولا يجوز لأحد أن يخرج من نطاق الحصار إلا في النهار، بشرط أن يرجع الى مكانه قبل أن يخيم الظلام وكل واحد من رؤساء القبائل مسؤول عن اتباعه فرداً فرداً.

يجب أن نقول أن الحالة السيئة للغاية تفوق كل تصور ، فان معدل الاموات من الأطفال يبلغ 90% وأمراض العيون التي ينتهي اكثرها بالعمى كثيرة جداً ومنتشرة ويكاد لا ينجو احد من الامراض، أما غذاء هؤلاء المساكين، فالأحسن أن لا نتكلم عنه بالمرة، ومن الطبيعي أن نرى هؤلاء يتألمون أشد الألم، وفي الدرجة الاولى من هذه الاسلاك الشائكة ، رمز الاسر، ورغم تلاصق الخيام ، وشدة تقاربها ببعضها، فإن حصرها ضمن اسلاك شائكة ، يجب ان نعتبره من المتناقضات الغريبة التي لايتصورها العقل

إن ماارتكب في العقيلة والبريقة وغيرها من المعتقلات من جرائم جعل المناضلين في العالم يصرخون وينددون بالاستعمار الفاشيستي في ليبيا فقال عبدالرحمن عزام يصف حالة المعتقلين ويلفت الأنظار إليهم: (يبحثون عن اخبار الاندلس وكيف اجرى الاسبانيون بالمسلمين هناك ومالهم والاندلس والامور جرت في القرون الوسطى فأمام أعينهم طرابلس الغرب فليذهبوا ويشاهدوا باعينهم في هذه الايام فضائح لاتقل عما جرى بالاندلس)

وعبرّ غراسياني نفسه عن المأساة التي كانت اكبر من قلبه القاس فقال: (لقد نتج عن هذا كله ان اكثر الناس هاجرت ونزحت الى مصر وتونس والسودان تاركة وراءها اهلها وذويها...فاني حاسبت نفسي وضميري.. الامر الذي جعلني لم أنم هادئاً اكثر الليالي) ويقول مبرراً جرائمه البشعة لانستطيع انشاء حاضر جديد اذا لم نقض على الماضي القديم).

عمر المختار يغير استراتيجية الحرب:

كانت معسكرات المجاهدين قريبة من نواجع الاهالي حتى يسهل على المختار وصحبه أخذ العشور والحصول على الذخائر والأسلحة والمؤن ولكن بعد حشر القبائل في المعتقلات الجماعية تغيرت خطة عمر المختار وطور اساليبه القتالية لما يتماشى مع المرحلة واعتمد على عنصر المباغتة وركن الى مفاجأة القوات الايطالية بعد كشفها والاستطلاع عليها في اماكن متفرقة

يقول غراسياني: (بالرغم من ابعاد النواجع والسكان الخاضعين لحكمنا يستمر عمر المختار في المقاومة بشدة ويلاحق قواتنا في كل مكان)

وقال عنه ايضاً: (عمر المختار قبل كل شيء لن يسلم أبداً لان طريقته في القتال ليست كالقادة الاخرين فهو بطل في إفساد الخطط وسرعة التنقل بحيث لايمكن تحديد موقعه لتسديد الضربات له ولجنوده، أما غيره من الرؤساء ... فإنهم أسرع من البرق عند الخطر، فيهربون الى القطر المصري تاركين جنودهم على كفة القدر معرضين لخطر الفناء، عمر المختار عكس هذا فهو يكافح الى أبعد حد لدرجة العجز ثم يغير خطته ويسعى دائماً للحصول على أي تقدم مهما كان ضئيلاً بحيث يتمكن من رفع الروح العسكرية مادياً ومعنوياً حتى يقضي الله امراً كان مفعولاً وهنا يسلم امره لله كمسلم مخلص لدينه)

كان عمر المختار قطب تدور عليه رحى الاعمال، والتف المجاهدون حوله التفاف السوار بالمعصم واستمر العمل بقيادته ومساعدة معاونيه كيوسف بورحيل، والفضيل بوعمر، وعصمان الشامي، عوض العبيدي، وعيسى الوكواك العرفي، عبدالله بوسلوم، وعبدالحميد العبار وكانت مواقف عمر المختار تدل على شخصيته القيادية البارعة في أحلك الظروف واثناء المحن، ففي احد الايام وعقب انتقام الايطاليين من احد المنتجعات التي كانت تقدم مساعدات للمجاهدين تقدم بعض زعماء القبائل باحتجاج الى عمر المختار وطلبوا منه اما ان يسلم الى الايطاليين او أن يرحل عن مواطنهم أو انهم سوف يحاربونه لكي يتجنبوا انتقام الايطاليين، وعلى اثر تسلم هذا الانذار دعا عمر المختار الى عقد اجتماع في منطقة قصر المجاهير وقد ساد هذا اللقاء حالة من التوتر وشدة في النقاش في محاولة لتجنب حرب اهلية بين المجاهدين والليبيين الواقعين في المناطق الخاضعة للاحتلال ، فرأى بعض المجاهدين تجنباً لهذا الوضع الحرج أن يهاجروا الى مصر لكي لا يتعرض الأهالي الى الانتقام وبعد حوار طويل، اظهر المختار مصحفه واقسم عليه بأنه لن يتوقف عن مجاهدة الايطاليين، وانه لن يترك الجبل الاخضر حتى يتحقق النصر او الشهادة، وفي نفس الوقت أعلن للمجاهدين انه من يريد الهجرة الى مصر فله مطلق الحرية في السفر او التسليم للايطاليين وعندما رأى المجاهدون موقف قائدهم عدلوا عن رأيهم واطاعوه وانفض الاجتماع على وحدة صف المجاهدين.

استمر غرسياني في تدابيره العسكرية، فلم يأت يوم 14 يونيو حتى كان الطليان قد استولوا على منطقة الفايدية، بأجمعها واحتلوها ونزعوا من الاهالي الخاضعين لهم 3175 بندقية ، 60.000 خرطوش.

نقل عمر المختار دائرة عملياته الى الناحية الشرقية في الدفنا نظراً لقربها من الحدود المصرية وذلك حتى يتمكن من إرسال المواشي التي يأتيه بها الأهالي الى الاسواق المصرية في نظير أخذ حاجته من هذه الاسواق ، مما جعل غراسياني يقرر إقامة الاسلاك الشائكة على طول الحدود الشرقية. قال: ... أن أطمأن على خطوط تمونيه البعيدة أصدر أمره الى قواته الموزعة في كل مكان ألا تزعج بعد الآن الليبيين الخاضعين لسلطاتنا حتى لايكونوا سلاحاً آخر ضده وألا يغضبوا من حركته، وهكذا يصبح أمام ضميره بأنه مسلم حقيقي، ونظيف أن مد الاسلاك الشائكة المكهربة على حدود مصر كادت أن تنتهي وستضيق الخناق عليه تدريجياً حتى يقع في الفخ الذي سننصبه له إن مصر هي المأوى الآمين لعدد كبير من الآلاف المؤلفة من البرقاويين الذين ينتمون الى القبائل العمامة والتي لها امكانياتها البشرية والمادية، وكذلك لها التأثير الكبير على كثير من النفوس التي يسهل تجنيدها وتوجيهها نحو القتال مقتنعين بأنهم يدافعون عن الدين الاسلامي وعن كيانهم معتبرين أننا مغتصبين ومعتدين على حقوقهم ... هؤلاء الخارجين عن القانون ومن بينهم اعداؤنا يكونون المخازن الثانية لتمويل الثورة بالاسلحة والمؤن والرجال لكل الادوار رغم كل الاحتياطات التي اتخذتها سلطاتنا الحاكمة، زد على ذلك الاموال التي تجمع من لجان التبرعات من الاقطار العربية لمساعدة الثوار القائمين بالحرب المقدسة فوق الجبل الاخضر في برقة وحتى أن اتخذنا كل الاحتياطات ضد الخاضعين لسلطاتنا وابعادهم فالثوار لايزالون اقوياء يهاجموننا في كل مكان.

عزم غراسياني على مد الاسلاك الشائكة في الحدود الليبية المصرية المصطنعة من قبل الاستعمار مايزيد على 300كم من البحر المتوسط الى مابعد الجغبوب وقد كلف الدولة الايطالية عشرين مليوناً فرنكاً ايطالياً. وقد حقق لهم ذلك العمل أمور عدة ذكرها غراسياني في كتابه منها:

1- قضى على الثوار.

2- قضى على التهريب وأصبح دخل الدولة الايطالية في ازدياد من ناحية الضرائب الجمركية.

3- قضى على حركة الامدادات التي كانت تأتي للثوار المجاهدين من مصر عن طريق المهاجرين

استشهاد الفضيل بوعمر:

استمرت المعارك بين الايطاليين والمجاهدين ومن اشهر تلك المعارك (كرسة) التي وقعت في يوم 20 ديسمبر وقد استشهد في هذه المعركة الساعد الايمن لعمر المختار الشيخ الجليل والمجاهد الفذ الفضيل بوعمر الذي شارك في مسيرة الجهاد منذ دخول الغزو الايطالي في 1911م وشهد له بالشجاعة والاخلاص في جهاده وقد ذكر عمر المختار تفاصيل هذه المعركة في رسالة له جاء فيها ان العدو هاجم المعسكر، وكان رئيسه السيد فضيل بوعمر وقد استشهد في هذه المعركة الى جانب الفضيل اربعون شهيداً وقد وجدنا في ميدان القتال مايزيد عن 500 من العدو وبينهم ماجور وثلاثة ضباط، وشدد الطليان عملياتهم العسكرية في منطقة الجبل الاخضر بعد هذه الواقعة، واستمرت جموعهم تناوش المجاهدين مدة اسبوعين، ولكن دون الوصول الى نتيجة.

وفي اكتوبر 1930م تمكن الطليان من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة عثر الطليان عقب انتهائها على (نظارات) السيد المختار، كما عثروا على جواده المعروف مجندلا في ميدان المعركة؛ فثبت لهم أن المختار مازال على قيد الحياة، وأصدر غراسياني منشوراً ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضي على (اسطورة المختار الذي لايقهر أبداً) وقال متوعداً : (لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغداً نأتي برأسه).

ومع شدة قبضة الاستعمار الايطالي على المدن إلا أن ذلك لم يمنع الاهالي من القيام بواجبهم المقدس ، واستطاعت المخابرات الايطالية ان تقبض على عدد من الليبيين الذين يزودون حركة الجهاد بالمؤن والمعلومات وتم اعدامهم وقد ذكر غراسياني بعض الاشخاص في كتابه فقال: وهنا اعرض بعض الاحوال الهامة لبعض الاشخاص الليبيين الذين نفذت فيهم المحكمة الخاصة حكم الاعدام في 14 يونيو 1930م عقدت المحكمة الخاصة في شحات لمحاكمة المواطن حمد بوعبد ربه الدرسي في الميدان العام، باعتباره خائناً للدولة الايطالية، لأنه كان شيخاً لبيت من بيوت قبيلته الدرسة، وكان محترماً من سلطاتنا ولكن اتضح لدى قسم المخابرات إنه يتعاون مع الثوار في امدادهم بالمؤن والسلاح، وكانت مخياماته تعتبر شبه استراحة لجنود الثوار (المجاهدين) وعدد هذه الخيام يزيد عن عشرين خيمة بمنطقة (قصر بن قدين) المكان الذي يتزود منه الثوار بالمؤن والسلاح، وقد حكم عليه بالاعدام رمياً بالرصاص في الميدان بشحات وأمام الجماهير ، وبعد اسبوع من هذا الحادث حصلت حركة انتقامية من الثوار (المجاهدين). هجموا على نفس الميدان ، وفي وضح النهار قتل فيه عدد كبير من جنودنا... وكذلك تاجر من تجار المنطقة.

وفي شهر سبتمبر 1930م اكتشفت قوة الامن بمنطقة البركة ببنغازي أن المواطن محمد الحداد احد اعيان بنغازي ومن تجارها يتعاون مع الثوار وعن طريقه تتم حركة الامدادات من المؤن والاسلحة وكان يستضيف في بيته الثوار ويمدهم بما يلزمهم وفي الوقت والحين حضرت المحكمة الخاصة وحكمت على الأب والابن بالاعدام شنقاً أمام الجماهير التي ارادت السلطات الايطالية إحضارهم خصيصاً لمشاهدة تنفيذ الحكم، وهذا مثال آخر سليمان سيد شيخ قبيلة الطرش، كان عضواً في مجلس النواب، حاملاً لوسام النجمة الايطالية للمستعمرات برتبة ضابط، وكان يرتدي برنوس الشرف الخاص بالنواب الليبيين كنا نعتمد على آرائه ولم نفكر في يوم من الايام أن يكون ضدنا حكمت عليه المحكمة بالاعدام ، لأنه كان يستغل نفوذه ويتعاون مع الثوار...ومن هذا النوع الكثير من المشاهد التي لايمكن حصرها وقد نفذ مع مجيء المحكمة الطائرة 250 حكماً بالاعدام، ونفذ فيهم الحكم في مدة وجيزة ورغم ذلك لازال الشعب الليبي يتعاون مع الثوار الى درجة الضياع التام

إن هذه الحقائق والمواقف التاريخية تشير الى فاعلية أهل المدن في جمع المعلومات والأموال والمؤن والأسلحة، وتهريبها الى قادة حركة الجهاد المبارك، وحرصهم على استمرارية جذوة الجهاد.

لقد وجد الايطاليون أنفسهم في حرب مع شعب دفع بكافة طاقاته نحو ساحات الوغى والفداء، وشارك معظم ابنائه بكافة مايملكون في حركة الجهاد المقدس.

احتلال الكفرة:

بعد ان استطاعت القوات الايطالية أن تعتقل قبائل برقة في معسكرات واسعة، واخذ غراسياني في مد الاسلاك الشائكة على طول الطريق على البحر المتوسط الى مابعد الجغبوب ليفصل برقة عن مصر وكان قد شرع في جمع قواته الضخمة من مختلف وحدات الجيش الايطالي والجيوش الملونة من المرتزقة ومن المعدات الحربية لإحتلال الكفرة.

كانت نقاط الاحتشاد هي العقيلة، ومرادة وجدابية وجالوا، وحشدت ايطاليا عدداً كبيراً من الابل استعداداً لنقل المؤن الى جانب سيارات النقل الكثيرة، هذا ماكان عن استعداد القيادة الايطالية ببرقة، أما عن القيادة الايطالية بطرابلس فقد جهزت هي الاخرى حملةمماثلة بقيادة الكونيل قالينا وكانت نقطة ارتكاز هذه الحملة واحة زلة وكانت القيادة العامة للحملة الموحدة تتمثل في شخص الجنرال رونكيتي تحت اشراف الجنرال غرسياني مباشرة وتحركت الجيوش الايطالية من طرابلس وبرقة في وقت واحد وبنظام موحد تسلك طريق الصحراء الى الكفرة، وتجمعت يوم 29 شعبان سنة 1349هـ بموقع الهواري، وهناك اشتبكت قواتهم مع المجاهدين في اولى المعارك وكانت معركة غير متكافئة، وقد اشترك قسم من الطائرات الايطالية مكون من عشرين طائرة، واستمرت المعركة ثلاثة ساعات قتل اثناؤها العدد الكثير من الايطاليين ومن المدافعين الذين ماكانوا يفكرون في صد العدوان طويلاً ولكنهم يحاولون إيقافه بعض الوقت ريثما يتمكن من يستطيع الفرار ليأخذ طريقه الى السودان أو مصر لقد قاتل المجاهدون جميعاً بشجاعة وبسالة نادرة ، فلم يكفوا عن القتال، واستشهد العشرات ووقع في أسر الطليان ثلاثة عشر فقط، وغنم الطليان مائة بندقية، واحتلوا الكفرة، وهتكوا الاعراضن وفعلوا مالم يفعله انسان.

لقد كتب غراسياني عن اهتمامه بإحتلال الكفرة، وعن الاستعدادات التي اتخذتها الحكومة الايطالية اكثر من خمسة واربعين صفحة، لقد اعترف غراسياني بقوة وشجاعة المجاهدين الذين تعرضوا لقتال الايطاليين عبر الصحراء الكبرى. قال غراسياني : لقد حملتنا خسائر فادحة وكنا حريصين على تحقيق النصر بأي ثمن لكون قوات المجاهدين غير متكافئة، رغم هذا كله كانوا اشداء اقوياء صامدين ، صابرين لايتقهقرون ابداً حتى ولو ادى ذلك لفنائهم جميعاً مؤمنين بأنهم اصحاب حق وشجاعة.

لقد اعترف العدو بهم كان زادهم التمر والشعير ومع ذلك دوخوا ايطاليا، وكان من بين القادة الذين اثخنوا في الاعداء عبدالحميد بومطاري الذي تزعم قيادة الزوية والمغاربة في تلك المرحلة في جهادها ضد ايطاليا، وصالح الاطيوش وسيف النصر الذي قال فيهم غراسياني: (لقد وصل سيف النصر، وصالح الاطيوش الى المنطقة وبصحبتهم الذين هاجروا من القطر الطرابلسي فأصبح الموضوع دقيقاً وبالاخص صالح الاطيوش فهو مكابر وشديد المراس

إن المجاهد صالح الاطيوش من المجاهدين العظام الذين ساهموا في الذود عن حياض المسلمين لقد شهد له عدوه غراسياني بشدة مراسه، فله منا الدعاء بالمغفرة والرحمة والرضوان وله ولجميع اخوانه الذين سطروا لنا صفحات من البطولة والرجولة للذود عن ديننا العظيم.

إن عائلة آل الاطيوش تعرضت لبلاء عظيم ، ولقد اعطى السنوسي الاطيوش صورة حية عن ذلك البلاء الذي كابده الفارون من جحيم الكفرة في ذلك الوقت.

إن اسرة عائلة الاطيوش أسرة مشيخة أصيلة في قبيلة المغاربة، تعد نموذجاً لما قاسته مختلف العائلات الليبية البارزة عبر فترة الكفاح الطويل ضد الايطاليين، فمن المعلوم أن الكيلاني الأطيوش، الذي عينه الوالي التركي في منصب القائمقام الكفرة سنة 1910م ، توفي في العام التالي مباشرة وهو في طريقه الى جالوا للالتحاق بقوات المقاومة التركية ضد الغزو الايطالي، وأخوه سعيد قضى نحبه خلف اسوار معتقل ايطالي في العقيلة ومن بني أخيه واحد شنقه الطليان في سرت، وعبدالله استشهد في معركة النوفلية، كما قتل في البريقة اثنان آخران هما علي واحمد عبد عبدالقادر الذي قتل في سرت سنة 1918م والآخر استشهد في معركة سرت بالقرب من اجدابية، وكذلك فقدت هذه العائلة مالايقل عن اربعة آخرين ماتوا في أثناء محاولة النجاة بأرواحهم من الكفرة.

فعندما هاجم الايطاليون الكفرة رحل صالح باشا الاطيوش بأهل بيته، وكان من بينهم السنوسي ابن أخيه، وبضعة اشخاص آخرين ، في قافلة من الابل اتجهوا بها أولاً صوب العوينات على حدود السودان، فبلغوها بعد ستة ايام، وهناك ملأو قربهم بالماء وانقسموا الى فريقين، توجه أحدهما الى الشمال نحو وادي النيل، بينما عمد الفريق الآخر الى مرقة وهي واحة صغير غير مأهولة تقع في ناحية الجنوب الشرقي بالسودان. ويبلغ طول هاتين المسافتين 500 ميل و 300 ميل على التوالي، أي مسيرة 25 يوماً و15 يوماً بمعدل سير الابل العادي، ولم يكن ثمة أي أثر يمكن للمسافر اقتفاؤه ولا مورد ماء في الطريق، ولا احد يستطيع ان يتصور مدى خطورة رحلة كهذه مالم يكن قد جرب اجتياز تلك الصحارى على ظهر جمل وقد حكى السنوسي الاطيوش قصة تلك الرحلة فقال: (بعد مسيرة عدة أيام اخفقنا في الوصول الى مرقة وعرفنا أننا تائهون في الصحراء ، فرجعنا ادراجنا نقصد العوينات. لما كنا استنفذنا مؤنتنا من المياه، أصبحنا مضطرين الى نحر ناقة أو جمل كل يوم لشرب الماء المخزون في بطون الابل، وكان كل منا يحمل في مخلاته بعض لحم الذبيحة ويأكل اثناء السير ومع ان المسافة التي قطعناها منذ خروجنا من العوينات كانت قد استغرقت منا ثمانية ايام كاملة، فقد بلغت بنا شدة المحنة اننا في طريق العودة قطعنا نفس المسافة خلال أربعة ايام فقط، راكبين او ماشين ليل ونهار وفي العوينات ملأنا قرب الماء من جديد، وبعد استراحة قصيرة واصلنا السفر عامدين نهر النيل رأساً، باقتفاء آثار الفريق الآخر من جماعتنا، وعثرنا في الطرق على جثث البعض، ومن بينهم امي وأختي واثنين من اخوتي قصفتهم طائرات الطليان، او ماتوا عطشا. وكنا نغذ السير ليل نهار حتى وصلنا آبار كريم بعد تسعة ايام ونحن اقرب الى الموت منا الى الحياة، وهناك اسعفنا الحظ بلقاء بعثة استكشافية كان قد نظمها الامير عمر طوسون بقيادة ضابط بريطاني ، فحملتنا معها الى واحة الخارجة ثم الى الداخلة. ومنها انتقلنا الى المنيا حيث استقر بنا المقام مع ناس من قبيلة الجوازي التي تربطنا بها صلة القرابة. ومكثنا هناك حتى عام 1940م وعندها التحقنا بالقوات الليبية تلبية لنداء الامير)

إن هذه القصة الحزينة تعطينا صورة واضحة عن ماكابده الليبيون الذين استطاعوا الهروب من هجمة غراسياني الوحشية على الكفرة، وتلك الغارة الهمجية، ولقد تأثر العالم الاسلامي من الأخبار التي سمعوها من العوائل الليبية التي كتب الله لها النجاة، وقد قام الامير شكيب ارسلان بدور مشكور في توضيح تلك الاعمال، وكتب مقالات صادقة أصبحت وثائق مهمة للمؤرخ لتلك المحنة العظيمة التي مرّ بها الشعب الليبي المسلم فقد قال: (....إنهم لما احتلوا واحة الكفرة في 13 يناير من سنة 1931م استباحوا قراها ثلاث أيام فقتلوا ماصادفوه من الأهالي وكان من جملة القتلى بعض الشيوخ الاجلاء مثل محمد عمر الفضيل، والسيد حميد الفضيل، والشيخ فضيل الديفار وغيرهم ممن قتلوه صبراً غير داخل في ذلك من قتلوا من المعركة التي جرت بين الاهالي وجيش الحملة الطليانية وهم 200 شخص ثم ان الطليان انتشروا في القرى والبساتين ونهبوا كل ماوقع في ايديهم ولم يرحموا الشيوخ ولا الاطفال ولا النساء وصادفوا الشيخ مختار الغدامسي وهو شيخ فان بلغ ثلاثاً وتسعين سنة، ومن جلة علماء السنوسية فحملوه مقيداً بالحبال على جمل ونفوه من الكفرة فمات في الطريق. ثم اغتصبوا النساء في اعراضهن وقتلوا منهن كثيراً ممن دافعن الى الآخر عن اعراضهن. وكان نحو من 200 امرأة من نساء الاشراف قد فررن الى الصحراء قبل وصول الجيش الايطالي، فأرسلوا قوة في أثرهن حتى قبضوا عليهن وسحبوهن الى الكفرة حين خلا بهن ضباط الجيش الطلياني واغتصبوهن وهكذا نزلوا المعرات بسبعين اسرة شريفة من أشراف الكفرة الذين كانت الشمس تقريباً لاترى وجههن من الصون، والعفاف، وقد أشارت الصحف الطليانية الى هذه الحادثة وصرحت في باب الافتخار قائلة: (إن الجيش قبض على 200 امرأة من نساء الزعماء) وقرأنا ذلك باعيننا ولحضنا ان مقصود البلاغ العسكري الايطالي التبجح بكون حلائل زعماء الكفرة صرن الى الضباط إلا اننا انتظرنا جلاء الاخبار من الجهة الثانية حتى نعلم ماذا جرى بعد التثبت ، فمضى شهر حتى وردت الاخبار من المهاجرين الذين دخلوا حدود مصر بأن هؤلاء السيدات المقصورات الناشئات في اكرم بيوت الطهارة والصون قد قبضوا عليهن في الصحراء وصرن الى أولئك الفجرة الذين لايعرفون لصيانة العرض معنى ولايقيمون للشرف وزنا. وعلمنا أن بعض شيوخ الكفرة الذين احتجوا على هتك اعراض السيدات المذكورات قد أمر القائد بقتلهم ثم لما هج هائج العالم الاسلامي من جراء هذا الخبر واشباهه اذاعت الحكومة الايطالية تمويهاً ظاهراً زعمت فيه أن الجيش تأثر للنسوة المائتين المذكورات شفقة عليهن ولأجل أن يرجعن الى بيوتهن آمنات وغير ذلك من الاقاويل التي قصدت ايطاليا بها تخدير اعصاب المسلمين الذين بلغهم ماكان جرى بالكفرة من هذه الفضائع من هتك اعراض مخدرات المسلمين ومن استباحة الزاوية السنوسية المسماة (التاج) وأراقة الخمور فيها، ودوس المصاحف الشريفة بالاقدام هذا منظماً الى ماكن بلغهم من قبل من اجلاء 80 ألفاً من عرب الجبل الاخضر عن اوطانهم واماتتهم بالجوع والعطش، واخذ اطفالهم قهراً الى ايطاليا لأجل تنصيرهم الى ماكان بلغهم من فظائع كثيرة مثل حمل الشيخ سعد شيخ قبيلة (الفوائد) وخمسة عشر شيخاً من رفاقه بالطائرات وقذفهم بهم من الجو على مشهد من أهلهم حتى إذا وصل احدهم الى الارض وتقطع ارباً صفق الطليان طرباً ونادوا العرب قائلين (ليأت محمد هذا نبيكم البدوي الذي أمركم بالجهاد وينقذكم من أيدينا) هذه حادثة وغيره من الأمور في هذا الشأن كثيرة جرحت قلوب المسلمين، فجرت مظاهرات بالشام، وحلب ، وطرابلس الشام، وبيروت، وفلسطين ، وانعقدت اجتماعات في كل مكان للاحتجاج على أعمال إيطاليا، وأبرق المسلمون بالاحتجاجات الشديدة الى جمعية الامم بجنيف والى نفس موسيلني بالعبارات القاسية وقامت قيامة الجرائد العربية وحملت على توحش الفاشيت من كل جانب وامتلأت جرائد مصر بالاحتجاج والطعن في ايطاليا الى أن عطلتها الحكومة المصرية اجابة لطلب الحكومة الايطالية ووصل الصريخ الى الهند والجاوى وأضج المسلمون لهذه الاخبار وانعقد في الجاوى اجتماع كبير حضره ألوف مؤلفة من المسلمين وخطبوا خطباً شديدة ودعوا الى مقاطعة البضائع الايطالية ، وتدخلت الحكومة الهندية في الأمر وانتصرت لايطاليا بمقتضى قاعدة التكامل الاوروبي بوجه المسلمين ، وقاعدة التكافل الاستعماري بوجه الامم المقهورة واشاع قناصل ايطاليا ان كل هذه الاخبار عمّا حل بمسلمي طرابلس ملفقة لا أصل لها وبلغت بهم الوقاحة أنهم كانوا يخاطرون الناس مخاطرة على أن يذهبوا الى طرابلس بأنفسهم ليشهدوا كذب هذه الاقاويل وبلغ بهم البهتان أنهم اشاعوا ايضاً أن ايطاليا اقترحت على جمعية الامم ان ترسل الى طرابلس لجنة من عندهم للتحقيق عما ينسب الى رجالها من الأعمال الشنيعة التي هم أبرياء منها، وكل هذا اختلاق محض قصدت به ايطاليا التمويه وتخدير الاعصاب وصرف المسلمين عن مقاطعة بضائعها، وقد سكن كثير من المسلمين الى هذه التكذيبات وهدأ بالهم والحق خلاف ذلك، وكل ماشاع من الاخبار عن اعمال الطليان لاسيما بعد مجيء دول الفاشيست هو دون الواقع، ولو تأمل المسلمون فيما يأتيه الفاشيست في نفس ايطاليا من الموبقات ومن اغتيال اعدائهم السياسيين ، ومن حجر كل حرية ومن منع تأليف كل حزب يخالف حزبهم وأمام هذا الانتقام الرهيب من المسلمين في قتلهم وتغريبهم عن ديارهم، فلا تسأل ، فقد أصبحت في حكم المتواتر الذي لايصح فيه المراء بالاتفاق عشرات الالوف من الاهلين على روايته فقد نزح عن طرابلس وبرقة نحو من مائتي ألف نسمة وقيل من 300 الف نسمة منهم 20 ألف دخلوا تونس والجزائر، ومنهم 60 الفاً دخلوا مصر، ومنهم من شردوا الى السودان، ومنهم من تفرقوا في الصحارى وقد اطبقوا بأجمعهم على صحة هذه الاخبار ومشاهدتهم تلك الافعال بالعيان، وانه ليستحيل اتفاق الألوف المؤلفة على الكذب هذا فضلاً كون هذه المظالم حقيقة راهنة ماكان هذا العدد الكبير من الاهالي يترك وطنه ويهيم على وجهه في البراري او يلتمس الرزق عاملاً في أرض غيره بعد ان كان سيداً في أرضه، ومن أغرب المتناقضات والتناقض من عادة كل كاذب، أنه بينما ممثلوا ايطاليا في بلاد الاسلام يذيعون أن من شاء أن يذهب الى طرابلس بنفسه ليتحقق من كذب تلك الاخبار عن فظائع الطليان فيها فإن ابواب طرابلس مفتوحة لمن شاء الذهاب الى هناك وبينما قنصلهم في بيروت يشيع ذلك في بيروت، وبينما الحكومة الايطالية تقول هذا القول لشوكت علي الزعيم المسلم الهندي أذا بقيت ايطاليا مدة طويلة بعد احتلال الكفرة وحوادثها المؤلمة تمنع كل دخول وخروج بين الحدود المصرية والحدود البرقاوية لئلا يقف اهل مصر على الحقائق والاخبار فيزدادوا هياجاً. ولكن الحقائق لابد أن تظهر ولايمكن ايطاليا اخفاء كل ماتأتيه من الاعمال الوحشية في طرابلس وليس المسلمون وحدهم هم الذين شاهدوا أعمال الطليان وضجوا منها بل ثمة كثير من الافرنج شاهدوها وأنكروها

لقد قام الامير شكيب ارسلان بدور مشكور في الدفاع عن الليبيين واظهار وحشية الايطاليين ، ولقد كتب في صحف ذلك الزمان مقالات حزينة، بيّن فيها الاعمال الوحشية التي قام بها الايطاليون ضد الشعب الليبي المظلوم وهذه وثيقة اخرى تاريخية لمقال كتبه الامير شكيب في مجلة الدولة العربية ولقد انتشر هذا المقال شرقاً وغرباً ونص هذا المقال:

دور الصحافة الاسلامية:

كانت الحركة الاسلامية تائهة عن كل مايحدث في طرابلس من تعذيب وهمجية من البرابرة الايطاليين الذين ماأتوا الى هذه الأرض إلا ليؤخروها عن التقدم والمدنية، بعكس ماكانوا يقولون ويكتبون .. نعم ان الناس علمت بأن الحكومة ايطاليا الفاشيستية نقلت مايزيد عن 80 ألف عربي من الجبل الاخضر ووضعتهم في الصحراء (سرت) ... نزعت منهم اراضيهم بحجة التعمير وان المعمرمين الايطاليين هم احق من أي أحد آخر، لانهم يتقنون هذا العمل أكثر وأحسن من العرب.

إن العالم علم بأن الجيش الايطالي احتل الكفرة وواحاتها بعد قتل السكان العزل والثوار الذين دافعوا عن وطنهم الى النهاية، وان الصحافة الايطالية تتبجح وتنشر بأن جيشها اسر مائة امرأة وهن زوجات الشيوخ هناك.

وفي مجلتنا (الدولة العربية) وجهنا سؤالنا الى الايطاليين الفاشستيين عن معنى هذا التبجح باسر مائة امرأة.

مع العلم بان التقاليد والعادات العالمية وبالاخص البيئة العربية التي تنفي اضطهاد المرأة أو النساء خصوصاً اثناء قيام الحرب. ولكن ماكنا نعتقد أن دولة تعتبر نفسها من دول البحر الابيض المتوسط مهد الحضارة الاوروبية ان تصل الى هذه الدرجة من الانحراف والخروج عن جادة التمدن والرقي. لم يسبق في تاريخ البشرية بل في تاريخ البربرية ، أن معاملة الجيش الايطالي الفاشيستي للنساء هي معاملة وحشية بدرجة تتقزز منها النفوس، فهي معاملة سيئة سواء في طرابلس أو في برقة.

ان هذه الاخبار لم تكن نسيجاً من خيال اوفكرة طارئة وانما هي حقائق يرويها من اسعده الحظ بالنجاة من المذابح التي قام بها الجيش الايطالي الفاشيستي.

شرحوا لنا مايلي:

1- عندما اتجهت القوات الايطالية لاحتلال الكفرة كانت معززة بالطائرات التي تلقي قنابلها على السكان العزل من شيوخ ونساء واطفال وخلاف هذا سمحوا لجنودهم ان يعبثوا بالسكان لمدة ثلاثة أيام مطلقي الايادي في البيوت والأسواق والمساجد وفي كل النواحي تصرفات وحشية لم تخطر علىبال احد نهبوا وقتلوا واحرقوا كل مامروا به ولم يتركوا أي جريمة تخطر ببالهم إلا وارتكبوها، قتلوا العلماء والمشائخ، هتكوا حرمات البيوت وبقروا بطون النساء وان عدد العائلات التي قضي عليها عند احتلال الكفرة يزيد عن 70 عائلة من علية القوم، وعلاوة على هذا فقد اتخذوا زاوية السنوسي (التاج) كحانة شربوا فيها الخمر حتى ثمالة الجنون وشربوا نخب القضاء على المسلمين واحتلال طرابلس وبرقة .. ألقوا بالمصاحف القرآنية في الاصطبلات تحت سنابك الخيل وبالكتب العلمية اوقدوا بها النار تحت قدورهم لطهي طعامهم. وقد استشهد من الثوار في احتلال الكفرة مايزيد عن (200) شهيد من بينهم المشايخ الآتية أسماؤهم:

الشيخ صالح العبادية، الحاج سليمان بومطاوي، الشيخ غيث بوقنديل ، الشيخ سليمان الشريف، الشيخ محمد يونس، الشيخ احمد بو اشناك وحفيده الشيخ عمر، الشيخ حمد الحامي ، الشيخ عبدالسلام بوسريويل، الشيخ محمد المسحوق وحفيده على بن حسين ، الشيخ محمد العربي، الشيخ محمد بوسجادة الشيخ محمد الفايدي الجلولي ، الشيخ خليفة الدلال. أما الرواية الثانية هي كيف تم احتلال الكفرة من اولئك الغاشمين المتوحشين من مشاهدين حقيقيين لتلك الاحداث، قبل دخول الايطاليين الى الكفرة قامت طائراتهم بقصف واحات الكفرة بقنابلهم الفتاكة فوق السكان العزل حيث قتل عدد كبير من النساء والشيوخ والاطفال ، وبعد أن دخلوا الكفرة اطلقوا أيدي جنودهم لمدة ثلاثة أيام للعبث والتخريب في الكفرة فقد اطلقوا بغالهم وخيولهم حيث دوت كل المزروعات فاستولوا على كل المواد الغذائية وقطعان الاغنام والبقر لتموين جنودهم المحتلين دون مقابل وعلاوة على هذا نهبوا اثاث السكان وقسموها على ادارات الجيش الزاحف كذلك ملابس النساء وحليها، هذا قليل من كثير زد على ذلك اعتداءاتهم على حرمات الناس العزل دون وازع من ضمير، وعندما اتجه بعض المشايخ الى قائد الحملة راجين منه اصدار امره الى الجنود بالكف عن هذه الاعتداءات على الناس كان مصيرهم القتل رمياً بالرصاص باعتبارهم خونة، وبالاختصار ان الايطاليين عندما احتلوا الكفرة قاموا بأعمال وحشية لم يسبق ان حدثت في التاريخ حتى في القرون الوسطى عهد الهمجية.

ان قضية الـ 80.000 عربي الذين نقلتهم القوات الغاشمة من اراضيهم الخصبة في الجبل الاخضر الى مناطق جدبة صحرواية لا ماء فيها ولا كلأ، هي منطقة (سرت) كي تموت المواشي جوعاً، وعطشاً . أما البقية فقد استولى عليها الجنود الايطاليون واصبحوا فقراء تدفع لهم الحكومة الايطالية فرنكين عن كل يوم لكل شخص مهما كان عدد عائلته. اما بالنسبة لحلي النساء وملابسها فقد نهبها الجنود الايطاليون، واصبحت العائلات في هوة الفقر سواسية. وفي اثناء مرافقة هذا العدد الضخم من رجال ونساء وأطفال، كان الجنود يسومونهم سوء العذاب وكل من يعجز عن المسير مصيره الموت فيقتلونه ويتركونه يتخبط في دمه.

ان الرجال والشبان الذين تترواح اعمارهم من 15 الى 40 سنة اجبروا على الانخراط في قوات الجيش. واما الصغار الذين تترواح اعمارهم من 14 سنة فقد اخذوا بالقوة من أهليهم وارسلوا الى ايطاليابحجة تعليمهم، ولكن في الحقيقة من اجل تنصيرهم.

وهذا ماكان يتحدث به سكان (روما) وهو تنصير الليبيين بصورة عامة والطرابلسيين بصورة خاصة. ورغبة الايطاليين الفاشستيين هي القضاء المبرم على العنصر الاسلامي في ليبيا، فاذا ليبيا تصير ايطالية وبجوارها مصر، سوف تتعرض الى أكبر خطر. وان مصر لن تسكت عن هذا الاجراء لان الايطاليين في اعتقادهم المريض ان مصر ليست دولة عربية، وانما هي خليط من عدة اجناس.. الأمر الذي يجعل ايطاليا تحكم بأن تغزو مصر وتتمكن من اراضها وشعبها كما تمكنت من طرابلس . ان الوعود المعسولة التي كانت تصرح بها السلطات الايطالية. وتمنياتها الطيبة التي كانت تعرضها على الشعب الليبي وانها -يعني ايطاليا- ما أتت إلا لتخلص الشعب الليبي من الاستبداد التركي. ولأجل ان تذر الرماد في أعين الناس، أتت بادريس وقلدته لقب الامارة ووعدته بالحكم الذاتي، ولكن كانت دائماً وعوداً فقط. وهاهي ايطاليا تلغي كل شيء وتبدأ في سفك الدماء وتطرد السكان من اراضيهم وأموالهم وأخذت اولادهم وبناتهم الى ايطاليا من أجل تعليمهم، وفي الواقع من أجل تنصيرهم.. اني اقل على المسلمين ان يتذكروا هذه كله وان يتفهموه ..فان هناك من يتفلسف ويتشدق بالقول بأن في اوروبا تسود العدالة والحرية، وان الدول الاوروبية لا تتعرض للقضايا الدينية، وان السبب في سقوط المسلمين هو التعصب الاعمى: ان هذه الالفاظ وهذه المغالطات تنذر المسلمين جميعاً بأنهم إذا لم يتحدوا ويذودوا عن حياضهم سوف يتعرضون الى القضاء ويفقدون قواتهم المسلحة وحرياتهم السياسية، سوف يحدث لهم كما حدث لطرابلس إذا لم يحافظوا على حريتهم واستقلالهم ان موقف ايطاليا من حضارة القرن العشرين موقف غير مشرف فقد رجعت الى معاملات القرون الوسطى.

ان الايطاليين المتوحشين لم يتحرجوا لا كبيراً ولا صغيراً فقد اعتدوا على الحريات اغتصبوا النساء وهتكوا الاعراض. كل هذه الاعمال من أجل اضطهاد المسلمين وروحهم الانتقامية.

لقد زجّ الايطاليون في السجون الكثير من الاهالي ومشايخ القبائل وقد عارضهم وندد بأعمالهم الشيخ سعد الفايدي شيخ قبيلة الفوايد فما كان منهم إلا أن قتلوه ومعه 15 من ابناء قبيلته البعض منهم ألقي من الطائرة من علو 400 متر وكلما كانت الطائرة تلقي بواحد منهم هناك كان الهتاف يعلو وصياح الجنود يزداد.

إن الصحفي الدانماركي الشهير (كنود هولمبوي) الذي اعتنق الاسلام وقام بجولة سياحية أثناء هذه الفترة في ليبيا، قد شاهد بنفسه وعينيه كل التعذيب والاضطهاد الذي يقوم به الجنود الايطاليون الفاشيست يقول:

شاهدت 20 عربياً مسلسلين .. شنقهم الجنود بأمر من ضابطهم دون محاكمة ولم تكن هناك محكمة.. هذا المنظر البشع أثر في نفسي ولم يكن في اعتقاده ان دول مثل ايطاليا الفاشستية وهي احدى دول البحر الابيض المتوسط تقوم بمثل هذه القسوة وهذه الوحشية. إنها جرائم سيسجلها التاريخ في صفحة سوداء ، وسيبقى وصمة عار في جبين الدولة الايطالية على مدى الدهر والازمان.

إن ايطاليا ارادت ان تحذو حذو فرنسا في تنصير المسلمين إبان حكمها في المغرب فقد عملت ووزعت المبشرين في طول البلاد وعرضها وبنت العديد من المعابد والكنائس في كل المدن والقرى لتقضي على الدين الاسلامي وهكذا عملت ايطاليا فقد بنت المعابد في طرابلس وبنغازي وكل القرى وأمرت المبشرين بأن يسعوا بكل الوسائل لتنصير العرب مهما كان الثمن. وقد فاقت على فرنسا بطريقة اخرى فأخذت الاطفال من حجور امهاتهم وبعثت بهم الى ايطاليا الى تلك المعاهد المسيحية لتعليم هؤلاء الاطفال الدين المسيحي.. وعزلهم عزلاً كلياً عن وطنهم وبيئتهم ...بحيث يشبون ويترعرعون في الجو الفاشستي والكنيسة المسيحية.

ان سياسة ايطاليا الفاشستية هي القضاء على الدين والعقيدة وابعاد المسلمين عن معابدهم ومساجدهم وكم من مرة صرح موسوليني رئيس الحكومة والحزب الفاشستي في خطاباته بعد احتلال (الكفرة) بأنه عازم على تثبيت ثلاثة ملايين من السكان الايطاليين في الاراضي الليبية الخصبة. وقد ايد هذا الرأي الكثير من السياسيين وأبرزها الكثير من الصحفيين على صفحات جرائدهم ومجلاتهم.

منذ أيام قرأت بالجريدة الرسمية المرسوم الملكي القاضي بمصادرة أملاك المواطنين وأوقاف المسلمين والزوايا السنوسية وأوقافها. وبهذه الطريقة الجهنمية عملت ايطاليا الفاشستية على تملك الايطاليين كل الممتلكات الليبية وبالتدريج وابعاد الليبيين من كل المجالات حتى تصبح ليبيا خالية من كل العناصر ولا يبقى بها إلا الايطالي المسيحي الكاثوليكي.

إذ الكلام الصادر من الجنرال او المارشال لم يكن إلا ذوداً وبهتاناً وتضليلاً لتهدئة المسلمين ؟ حتى تستطيع السلطات الايطالية الفاشستية تنفيذ أغراضها الاستعمارية. وهي ان استحوذت على الملايين من هكتارات الاراضي الزراعية وغيرها (من أين لها هذه الاراضي) فالجواب معروف. استحوذت عليها بطرد أهلها الحقيقين ونقلهم الى المناطق الهلاك هم ومواشيهم على السواء امام أعين العالم المتمدن.

وأمام عصبة الامم. وبالاختصار تبجح الايطاليون بقولهم ان طرابلس وبرقة كانتا رومانيتين .. فلابد أن ترجعا رومانيتين كما كانتا - هذا هو هدف الفاشيست بدون تردد.

إننا لانصدق مايقولون لقد خالفوا القواعد الدولية والانسانية، ولم ينفذوا حرفاً واحداً من تعهداتهم الى الطرابلسيين والبرقاويين، حتى التعهدات الكتابية والاتفاقات المبرمة بينهم وبين ادريس السنوسي، فكانت عبارة عن اكاذيب وكسب للوقت. نحن مقتنعون بأن كل ماكتبناه وأعلناه على الملأ أجمع ستكذبه السلطات الفاشيستية، وستوجد لنا مضابط لكي تدحض أقوالنا ولكن كل ماكتبناه ثابت وصحيح ومصدره من جهة عاصرت الاحداث وهي هيئة التحرير الليبية في دمشق فقد أثبتت الحوادث والاعتداءات بالوثائق الرسمية، وبالاخص في احتلال الكفرة فقد ارتكب الجنود الايطاليون الفاشيست أبشع الجرائم باعتداءاتهم على النساء وقتلهم الشيوخ والاطفال. واعتدوا على حرمات المساجد والمقدسات. وقد ادعت ايطاليا بأن كل الاعمال العسكرية التي قامت بها ماهي إلا تأديب لاناس أعلنوا العصيان على دولتهم، وهذه حجة واهية لايقبلها العقل ولا تقوم بها دولة متمدنة كما تدعيه ايطاليا الفاشيستية. وان الثوار في العرف الدولي لم يكونوا من العصاة على الدولة وإنما هم أصحاب حق يدافعون عنه ، اغتصبه عدو دخيل.

بقي علي أن اختتم مقالي هذا الذي كتبته لا أريد منه تحريض المسلمين على أن ينتقموا من الايطاليين الذين يعيشون معهم حاشا لله نحن لسنا من الانتقاميين ولا في الجهل مثل الايطاليين الفاشيست وليس من شيم أخلاقنا أن نستعمل القوة على من هو أضعف منا.

وان المسلمين لن يغيروا أبداً تراثهم الخلقي الذي ورثوه أباً عن جد. ولكني أقترح ماهو آت:

1- جمعية الشبان المسلمين في كل بلد عليها أن تحتج على كل أساليب الاعتداء والاجرام التي ارتكبتها ايطاليا الفاشيستية في ليبيا. وان ترسل برقية احتجاج شديدة اللهجة الى عصبة الامم وتنشر على الصحف العالمية.

2- كل المدن والمقاطعات الاسلامية التي تتقد حماساً والدم الساخن الذي يجري في عروقهم، عليهم أن يقدموا احتجاجاتهم الى عصبة الامم برقياً مستعجلاً ونشرها جميعاً على صفحات مجلاتهم وجرائدهم المحلية .

3- ان مجموعة الدول الشرقية بالقاهرة هي كذلك عليها ان تحتج وتندد بأعمال القمع والعنف التي تقوم بها ايطاليا الفاشيستية وتقدمه الى عصبة الامم مثل الهيئات الاخرى.

4- كل الهيئات الاسلامية والعربية والشرقية بالقاهرة وسوريا والعراق والعربية السعودية والهند وجاوا وغيرها لابد وان يقوموا بواجبهم نحو القضية الليبية.

5- عقد اجتماعات شعبية في المدن الاسلامية وإلقاء الخطب الحماسية لشرح ظلم واستبداد السلطات الايطالية الفاشيستية وهتافات بسقوط العدو الغاصب.

6- يجب على كل المسلمين أن يقاطعوا كل البضائع الايطالية والسفن وكل الوسائل والاعمال وكل شيء يحمل اسم ايطاليا، وقطع كل العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكذلك تكوين لجان شعبية خاصة بمراقبة البضائع الايطالية.

7- طبع المنشورات وكتيبات تبين فيها تصرفات ايطاليا الفاشيستية واضطهادها للشعب الليبي، ويكون طبعها كذلك باللغة الانكليزية والفرنسية والالمانية والايطالية ويكون توزيعها بالآلاف في اوروبا وفي كل العالم ومن واجب كل مسلم ان يقوم بالصاق هذه المنشورات في كل الشوارع والميادين، وتوزيع الكتيبات في كل مكان من العالم. كذلك على كل مسلم أن يعلق في بيته بعضاً من هذه المنشورات حتى لاينسى مايعانيه الشعب الليبي من اضطهاد وتعذيب.

أيها المسلمون:

لا تقولوا بأن هذا الحديث في طرابلس وليبيا فقط وإنما الليبيون الشرفاء طعنوا في شرفهم.. في دمائهم.. في دينهم وفي أموالهم وممتلكاتهم وكذلك سيحدث لكم أنتم مثل هذه المأساة وسيحل بكم العذاب كما حل بالليبيين الشرفاء إذا لم تدافعوا عن أنفسكم ، إذا لم تبينوا أنفسكم أنكم أحياء.

أيها المسلمون:

في الوقت الحالي لن تستطيعوا الدفاع عن انفسكم وبسلاحكم فقط بل سخروا أقلامكم وكذلك باحتهادكم وبصبركم على المكائد، لتدافعوا عن كيانكم وعن ارضكم وعن مقدساتكم وتثبتوا للعالم بأنكم شعب يعرف كيف يقاوم .

قال شكيب ارسلان ولما حررت المقالة التي نشرتها عن فجائع طرابلس وبرقة سنة 1931م على أثر دخول الطليان الى الكفرة وارتجف لها العالم الاسلامي غضباً وعلا الصراخ من كل جهة جاءني من الشيهد الاكبر بطل الجبل الاخضر السيد عمر المختار الكتاب الآتي:

رسالة من عمر المختار إلى شكيب أرسلان:

كانت تلك الجهود التي قام بها الأمير شكيب أرسلان وصلت أخبارها للمجاهدين، فأرسل قائد حركة الجهاد رسالة شكر واحترام وتقدير لتلك الأعمال وهذا نص الرسالة (إنه من خادم المسلمين عمر المختار إلى المجاهد الأمير الخطير أخينا في الله وزميلنا في سبيل الله الأمير شكيب أرسلان حفظه الله بعد السلام الأتم والرضوان الشامل الأعم ورحمة الله وبركاته قد قرأنا مادبجه قلمكم السيال عن فظائع الطليان وما اقترفته الأيدي الأثيمة من الظلم والعدوان بهذه الديار فإني وعموم إخواني المجاهدين نقدم لسامي مقامكم خالص الشكر، وعظيم الممنونية. كل ماذكرتموه عما اقترفته أيدي الإيطاليين هو قليل من كثير وقد اقتصدتم واحتطتم كثيراً ولو يذكر للعالم كل مايقع من الإيطاليين لاتوجد اذن تصغي لما يروى من استحالة وقوعه، والحقيقة والله وملائكته شهود أنه صحيح وأننا في الدفاع عن ديننا ووطننا صامدون، وعلى الله في نصرنا متوكلون وقد قال الله تعالى: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته في 20 ذي الحجة 1349هـ)

وقد علق شكيب أرسلان على تلك الرسالة فقال: ومالاحظه الشهيد المشار إليه هو عين الحقيقة فإن الناس يصعب عليهم أن يصدقوا الشناعات والدناءات والنذالات التي أقدم عليها الطليان في طرابلس ولاسيما الفاشيست منهم

إن رسالة عمر المختار للأمير شكيب أرسلان نستخلص منها فوائد جمّة، ففي قوله من خادم المسلمين دليل على تواضعه وافتخاره بكونه من خدّام المسلمين وهذا المعنى له مدلول عند الشيخ عمر المختار، فهو يتقرب إلى الله تعالى بخدمة المسلمين وهي من أعظم القربات عند الله تعالى، وفي قوله إلى المجاهد الأمير الخطير: وصف الأمير شكيب بالمجاهد وهو بالفعل جاهد مع الليبيين بجانب جنود الأتراك ضد الطليان، وفيه دلالة على اهتمام عمر المختار بالمصطلحات الشرعية فلم يقل مناضل، أو مكافح، أو ثائر .. وإنما تقيد بوصفه مجاهد لدلالة هذه الكلمة وعمقها في أوساط المسلمين، ووصفه بالخطير كيف لا وقد كانت مقالاته أنفذ من الرصاص في قلوب الإيطاليين، وساهمت في تشكيل تعاطف إسلامي وعربي كبير مع القضية الليبية العادلة، وفي قوله أخينا في الله فيه دلالة رابطة العقيدة التي جعلت المسلمين أخوة، فهي فوق كل الروابط الأرضية، وفي قوله بعد السلام الأتم والرضوان الشامل الأعم: فيها قوة العبارة، وبلاغة الأسلوب، وروعة المدخل، وفي قوله: قد قرأنا مادبجه قلمكم السيال عن فظائع الطليان، دليل على متابعة المجاهدين لما يجري خارج البلاد وله علاقة بقضية شعبنا، وأما بقية الرسالة ففيها تأكيد للأمير شكيب عن المعلومات التي وصلت إليه وقام بنشرها، وفيها إصرار قوي على مواصلة الجهاد والدفاع عن الدين والوطن، وفيها توكل على الله عظيم هذا وقد قامت جمعية الشبان المسلمين بمصر بنشر بيان عن سياسة الإبادة والاستئصال التي تبعتها ايطاليا في طرابلس الغرب وألقي ذلك البيان في اجتماع عظيم في نادي جمعية الشبان المسلمين ووقع عليه أهل الرأي، والمكانة في مصر ليرسل إلى جمعية الأمم، ويذاع في العالم الإسلامي وجاء في ذلك البيان الحديث عن:

سياسة التهجير:

لقد شهدت مصر مشهداً لاتستطيع الإنسانية أن تعرض عنه متجاهلة ما انطوى عليه من الآلام وذلك أن مئات من بني الإنسان بين رجال ونساء وأطفال وشيوخ اضطروا تحت ضغط الجور إلى أن يتركوا أوطانهم تخلصاً من الظلم، وأن يهيموا على وجوههم في القفار، ولولا مروءة مأجور الواحات المصري الذي خرج هو ورجاله للبحث عنهم حتى لقيهم وأنقذهم لهلكوا عطشاً وجوعاً أولئك هم فريق من إخواننا الطرابلسيين الذين خرجوا من قسوة الحكم الإيطالي الذي لايطاق.

سياسة القتل والرمي في البحر:

ولم تكد أعيننا تكفكف الدموع على هذا المشهد الذي شهدته على اليابسة حتى حملت إلينا أمواج البحر في السلوم مشهداً آخر أفظع من هذا وأشنع، فرمى البحر إلى هذا الساحل المصري أربع عشرة جثة من جثث هؤلاء الطرابلسيين مغلولة في سلسلة واحدة.

عمل الإيطاليين في الكفرة:

ثم توالت الأخبار بأن زاوية الكفرة المنقطع أهلها للعبادة قد أمطرتها طائرات الإيطاليين بالقنابل وفتكت بأهلها فتكاً ذريعاً، وبعد ذلك هاجمها الجيش، وكاد يأتي على البقية من أهلها ولم يتعفف عن هتك الأعراض وسلب الأموال وبقر بطون الحوامل.

قتلهم لأهل العلم:

وقد قتل من أهل الكفرة في هذه النازلة كثيرون منهم الشيخ أبو شنة، وابن أخيه الشيخ عمر والشيخ حامد الهامة، والشيخ عبدالسلام أبو سريويل، والشيخ محمد المنشوف، وابن أخيه على بن حسين، والشيخ محمد العربي، والشيخ محمد أبو سجادة، والشيخ أحمد الفاندي الجلولي، والشيخ خليفة الدلاية.

قتلهم لكبار شيوخ الكفرة:

ولما ذهب كبار شيوخ زاوية الكفرة إلى القائد الكبير يرجونه وضع حد لهذه المذابح أمر بذبحهم فذبحوا أمامه كما تذبح الشياه.

قتل الأبرياء برميهم من الطائرات:

ومن الفظائع التي ارتكبها الإيطاليون في برقة، ونقلها الرواة الصادقون أنهم وضعوا أحد مشايخ عائلة الفوائد المدعو الشيخ سعد وخمسة عشر شخصاً من العرب في الطائرات وارتفعوا بهم عن سطح الأرض ثم جعلوا يلقونهم واحد بعد الآخر ليموتوا موتة لم يسبق لها مثيل.

انتزاع الأراضي من أهاليها وتجويعهم:

ومن الفظائع التي ارتكبوها في الجبل الأخضر إخراج أهله منه وهم لايقل عددهم عن ثمانين ألف عربي إلى بادية سرت القاحلة، ثم أذاعوا بواسطة قنصليتهم في بلاد الأرجنتين أن حكومة طرابلس و برقة تعطي الأراضي الخصبة فيها لكل إيطالي يريد النقلة إليها، وبلغت مساحة الأراضي التي أخذت غصباً نحو من مائتي ألف هكتار ولاتزال الحكومة الإيطالية تحث الإيطاليين على استعمار هذه الأراضي وقبل انتزاع أراضي الجبل الأخضر من أهله في هذه السنة انتزعت في سنة 1924م ما مساحته 420 ألف هكتار بدون مقابل، وفي بعض الأحيان كان المقابل عن المائة ألف هكتار ستة آلاف فرنك إيطالي - أي خمسين جنيها تقريباً، وقد خرج أهالي الجبل الأخضر عند انجلائهم منه وهم لايملكون مايقتاتون به فرتبوا لكل عائلة فرنكين في اليوم وهم الآن يعيشون بهذا المرتب عيشة بؤس تفتت الأكباد، وفي أثناء نقلهم إلى صحراء سرت كان كلما عجز واحد منهم عن مواصلة المشي يرمى بالرصاص.

ترحيل الأطفال إلى إيطاليا لتنصيرهم:

وفضلاً عن كل ذلك فقد جمع الإيطاليون الأطفال الوطنيين من 3 إلى 14 وأخذوهم من أهلهم وأرسلوهم إلى إيطاليا بزعم تعليمهم فيها، وجمعوا الشبان من سن 15 إلى 40 وألحقوهم بالجيش واستخدموهم في محاربة أهلهم وبلادهم.

أرساليات التبشير بين الأهالي:

وبلغ الاستهتار بالشعور الإسلامي مبلغاً عظيماً بين إرساليات التبشير المنبثة الآن بين الأهالي، ومن صدور الأوامر المشددة على الخطباء في الجوامع بالدعاء لملك إيطاليا على المنابر.

خداعها للأهالي:

وقد حدث مراراً أن الحكومة تعلن عن العفو والأمان، فإذا وقع العفو عنهم وغدو في قبضتهم غدرت بهم، وممن ذهبوا ضحية هذا الغدر من رؤساء القبائل خليفة بن عسكر، والشيخ عبيدة الصرماني، وأحمد الباشا، وابراهيم بن عباد، والهادي كعبار وابنه محمد كعبار، والشيخ أحمد أحمد الحجاوي، والشيخ علي الشويخ، والشيخ عبدالسلام بن عامر، والشيخ محمد التريكي، والشيخ شرف الدين العمامي، والشيخ أحمد بن حسن بن المنتصر، والشيخ عمر العوراني، والشيخ محمد عبدالعال، ومن الضحايا لايعرف لهم ذنب، الشيخ صالح العوامي وهو شيخ يبلغ التسعين عاماً من أهل العلم والصلاح قبضت عليه إيطاليا سنة 1923 وزجته في سجن بنغازي إلى أن مات فدفن بمحل مجهول، فأرواح هؤلاء الضحايا تصيح بالإنسانية جميعها، وبجمعية الأمم بنوع خاص أن هلمي إلى انقاذ البقية الباقية من أبناء الإنسانية المعذبة في هذه الربوع من سياسة الفتك والاستئصال والإبادة التي تتبعها إيطاليا في طرابلس المنكودة وأن العالم الإسلامي يعتبر ماوقع ويقع في طرابلس الغرب عدواناً مباشراً على كل مسلم مهما كانت جنسيته ووطنه، وسيبقى عار هذه الأعمال لاصقاً لإجراء تحقيق دولي حر دقيق في نفس بلاد برقة وطرابلس عن كل ماجرى فيها وإعلان نتيجته كما تقتضيه العدالة والحق، والموقعون على هذا يطلبون من جمعية الأمم اجراء هذا التحقيق تنزيهاً للإنسانية عن لحوق هذا العار بها إلى الأبد ويرجون بالحاح أن يكون لهم مندوب يختارونه مع لجنة التحقيق، وهم ينتظرون ماتقرره العصبة في هذا الشأن بفارغ الصبر.

التوقيعات:

1- محمد الشرقاوي.

2- خليل الخالدي رئيس الاستئناف الشرعي بفلسطين.

3- محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الإسلامية.

4- محمد عبداللطيف دراز من العلماء وعضو مجلس إدارة.

5- جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.

6- محمد عبدالرحمن قراعة من العلماء ومدرس بالأزهر الشريف.

7- عبدالوهاب النجار، وكيل جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.

8- محمد كامل القصاب.

9- محمد تقي الدين الهلالي، الأستاذ الأول للآداب العربية بندوة العلماء بالهند.

10- علي سرور الزنكلوني، المدرس بقسم التخصص بالأزهر.

لقد عبث الجنود الإيطاليين بالمكتبة السنوسية، التي كانت ثروة علمية ضخمة فأخذت أيدي الجنود تبددها ذات اليمين وذات الشمال وتقد بها النيران للطعام، وأخيراً صدرت الأوامر بجمع ماتبقى منها ونقله إلى بنغازي فنقلته أربعون سيارة شحن كبيرة وعدد كبير من الإبل، ولم تنج هذه المكتبة بعد وصولها إلى بنغازي من العبث فقد تسرب الكثير منها إلى أيدي الأفراد، ونقل قسم كبير منه إلى إيطاليا، وهكذا وصلت يد الفساد الإيطالية إلى كل شيء في ليبيا.

عندما تم اعتقال جميع أهالي برقة وحصرهم، وتم احتلال واحة الكفرة لم يعد إذن أمام سفاح برقة إلا شيء واحد هو اتمام وضعية مد الأسلاك الشائكة التي ستفصل بين برقة ومصر فصلاً نهائياً، فأخذ في سرعة تتميمها مجنداً لذلك كل مالديه من إمكانيات، وكان قد استدعى شركات المقاولات الخاصة من إيطاليا، فتعهدت كل شركة منها بإتمام الجزء المخصص لها تحت إشراف القيادة العسكرية التي وضعت مهندسيها تحت تصرف هذه الشركات، وقد استوردت الحكومة الإيطالية معدات خاصة من ألمانيا فضلا عما جاءت به من إيطاليا لهذا الغرض المطلوب، ووضعت تحت تصرف هذه الشركات عشرات الآلاف من العمال الذين جندتهم من المعتقلات تلهب ظهورهم السياط، وهكذا امتد خط الأسلاك الشائكة من البحر المتوسط إلى مابعد الجغبوب فكان طوله حوالي ثلاثمائة كيلومتر، ثم وضع غرسياني نقاط عسكرية مزودة بجميع المعدات الحربية، وربط بعضها ببعض من حيث الاتصال فيما إذا احتاجت نقطة لمساعدة الأخرى تهب بسرعة، ومن هذه النقاط: مساعد، والشقة وبئر الغبي، وقبر صالح، وسيدي عمر، وبئر حكيم، ثم زوّد غرسياني هذا السياج المحكم بمولدات كهربائية لمده بالنور حتى لايستطاع الافلات منه مهما تكن الأحوال، وإذا ماقدر لأي إنسان أن يصل إليه فسيواجه معركتين عسيرتين لاسبيل لإفلاته من إحداهما إذا ماتيسر له الإفلات من الأخرى، وتتمثل المعركتان في محاولة تقطيع الأسلاك، وفي الدفاع عن النفس، وتقطيع الأسلاك يحتاج إلى معدات فنية وإلى وقت من الزمن فكيف إذن لمن يتمكن من الوصول إلى هذا السياج إجراء عملية التقطيع وعملية الدفاع في آن واحد.

كان المجاهدون مستمرين في جهادهم والقوات الإيطالية تشتبك معهم وهي مجهزة بالمصفحات والطائرات والمدفعية وكان القتال لايتوقف وقد أورد الجنرال غرسياني في كتابه أنه التقى مع عمر المختار في مائتين وستين معركة خلال الثمانية عشر شهراً ابتداء من حكمه في برقة إلى أن وقع عمر المختار أسيراً وقد ثبت المجاهدون في حالتي الدفاع والهجوم.

كان المجاهدون يقضون معظم أوقاتهم في حالة استعداد قصوى ويوجهون الضربات المحكمة للطليان وحار سفاح برقة في أمر المجاهدين، ورغم الإجراءات التي اتخذها والتي كان يثق في فائدتها إلا أنه أصيب بالقنوط واليأس وأصبح كل أمله في موت عمر المختار الطبيعي قائلاً لكبار مرؤسيه في أكثر من مناسبة: إن عمر المختار شيخ كبير ولابد من موته عاجلاً أو آجلاً فعلينا أن ننتظر تلك الساعة ولعلها لاتكون بعيدة، وفكر غرسياني ذات مرة تفكيراً غريباً وإن كان لايستغرب على تفكيره أي شيء، فكر في إحراق جميع غابات الجبل الأخضر، ودرس هذا الموضوع جدياً مع مستشاريه السياسيين والعسكريين. إلا أن السيد صالح بك المهدوي أحد زعماء بنغازي استطاع أن يثني غرسياني عن هدفه بعد أن اجتمع به وشرع غرسياني يتكلم عن عمر المختار محملاً مسؤولية ذلك إلى جميع أهل البلاد، وقال عنهم لو أنهم صدقوا معنا لما استمر عمر المختار في موقفه اليائس يقاتل جنودنا، ثم انتقل فجأة ليتحدث عن موضع حرق غابات الجبل الأخضر وقال: إن الحكومة الإيطالية يهمها أن تنهض بهذه البلاد، وإن عمر المختار وقف عقبة في سبيل النهوض، وحاولت الحكومة أكثر من مرة أن تنصحه للإقلاع عن محاربتنا ولكنه رفض الانصياع إلى نصائح الحكومة معتمداً على إختفائه في مغارات الجبل وغاباته، ولقد صممت أن أزيل هذه الغابة التي يحتمي وراءها ساخراً بقوة الحكومة، وسكت الجنرال قليلاً، ثم طلب من صالح بك المهدوي أن يشاركه البحث في هذا الموضوع فأجابه بقول:

إن عمر المختار سينتهي بلاشك فقاطعني عند كلمتي هذه بقوله (إكُّو إكُّو ... كويستا لفيريتا .. يانوتا يانوتا ... سينتا ... سينتا ... ديري .. ديري .. أوانتي ... أوانتي ..) ومعنى هذه الكلمات الإيطالية هو: هكذا .. هكذا .. هذه هي الحقيقة (... إسمع يايانوتا (الترجمان) إسمع ... إسمع ... قل ... قل ... استمر .... استمر) إنكم يادولة الوالي اتخذتم بحزم جميع الإحتياطات التي من شأنها القضاء عليه، والمسألة مسألة وقت لا أقل ولا أكثر وهنا تحمس الجنرال لكلماتي هذه كأنها صادفت هوى في نفسه، أو كأنني قلت له شيئاً كان يريد أن يسمعه.

وقلت له مواصلاً الحديث: إن الدولة الإيطالية في حاجة لاستثمار كل شجرة في هذه البلاد، وسوف يكون فضل هذا الاستثمار المنتظر على أيديكم فإذا ما أقدمتم على حرق الغابات والكلمة الأخيرة لدولتكم فسوف يمر زمن طويل وطويل جداً دون إعادتها من جديد لما كانت عليه، هذا إذا لم يكن إعادتها مستحيلاً، وإليكم يادولة الوالي نذكر مسألة لها وجه الشبه برأيكم هذا. في عهد الدولة العثمانية قامت قبيلة البراعصة بعصيان ضد الحكومة وتعذر على الحكومة انهاء العصيان، واعتبرت أن غابات الجبل الأخضر كانت أكبر مشجع للقبائل على العصيان فتتخذ منه مخابئ لايقوى الجنود العثمانيون على إكتشافها فأرادت الحكومة أن تقوم بحرق جميع الغابات وسمع السلطان بذلك فاعترض على هذه الفكرة قائلاً: إذا كان الموجب لعصيان الأهالي هو تمنعهم عن دفع العشور والعوائد الحكومية فإنني أدفعها عنهم من جيبي الخاص حماية للغابات في الجبل الأخضر، ولا أوافق على حرقها. وعندما إنتهيت من الحديث معه ودعني شاكراً).

لقد حرص صالح بك المهدوي على حماية الجبل الأخضر من عبث غرسياني الذي كانت في يده إمكانات إيطاليا للقضاء على حركة الجهاد ولذلك جادل وناقش وحاول أن يقنع غرسياني بالإقلاع عن تلك الفكرة الجهنمية لقد قال صالح بك عندما سئل عن صحة ما إذا كانت الحكومة العثمانية فكرت في إحراق غابات الجبل الأخضر، فأجاب بقوله: إن المسألة التي ضربت بها المثل للجنرال غرسياني كانت لها أثر في عهد قديم والحديث عنها يطول، والطليان لايريدون ذكرها من وجهة سياسية محضة وعلى كل حال كنت أرمي بذكرها للجنرال غرسياني إلى حماية جبلنا من عبث هذا المجنون الذي وضعوا في يده سيفاً حاداً.

كان غرسياني يملك القوات الضخمة في البر والبحر والجو، والسلطة الغاشمة المستبدة في برقة، والخزائن المرصوفة بالأموال، والسجون والمعتقلات والمشانق، ومع هذا يضعف ويسيطر عليه العجز أمام المجاهدين وقائدهم العظيم حتى دفعه تفكيره إلى حرق الغابات بعد أن تمكن من حرق الأكباد، والأفئدة والأجسام لقد وقع تحت تأثير عصبي حاد من جراء ما أصابه من الفشل الذريع وكان في طريقه إلى الإستقالة أو الإقالة لولا تقدير الله بوقوع عمر المختار في الأسر

أحمد الشريف يحترق على بلاده ويرسل محمد أسد لمعرفة أخبار المجاهدين:

كان محمد أسد صاحب كتاب الطريق إلى الإسلام قد تعرف على أحمد الشريف أثناء إقامته في الحجاز وقد تأثر به غاية التأثر، وأحبه حباً عظيماً، يقول محمد أسد: (ليس في الجزيرة العربية كلها شخص أحببته كما أحببت السيد أحمد، ذلك أنه مامن رجل ضحى بنفسه تضحية كاملة مجردة عن كل غاية في سبيل مثل أعلى، كما فعل هو. لقد وقف حياته كلها، عالماً ومحارباً، على بعث المجتمع الإسلامي بعثاً روحياً، وعلى نضاله في سبيل الاستقلال السياسي ذلك أنه كان يعرف جيداً أن الواحد لايمكن أن يتحقق من دون الآخر)

لقد تعرف محمد أسد على أحمد الشريف بواسطة المجاهد الأندونيسي حاجي آغوس سالم الذي كان يمثل مركز القيادة في جهاد اندونيسيا ضد أعدائها، وكان قد جاء معه بقصد الحج وعندما عرف السيد أحمد الشريف أن محمد أسد حديث عهد بالإسلام، مد إليه يده وقال: (مرحباً بك بين إخوانك، يا أخي الشاب ..). لقد أحب محمد أسد أحمد الشريف وتفاعل مع قضية ليبيا وكان يمضي معه وبصحبة السيد محمد الزوي الساعات الطوال للبحث في وضع المجاهدين في ليبيا واستمرت الإجتماعات في مساء كل يوم طيلة أسبوع تقريباً لبحث ماكان بالإمكان صنعه، وقد رأى الشيخ محمد الزوي أن إمداد المجاهدين بين الفينة والأخرى لم يكن من شأنه أن يحل المشكلة، فقد كان يعتقد أن واحة الكفرة، في الجنوب من صحراء ليبيا يجب أن تكون ثاني محور لكل العمليات الحربية في المستقبل وكان يظن أن الكفرة كانت ماتزال بعيدة عن تناول الجيوش الإيطالية، وفوق ذلك فقد كانت تقع على طريق القوافل (ولو كان طويلاً وشاقاً) إلى واحتي بحرية وفرفرة المصريتين، ولذا كان يمكن تموينها بصورة جادة أكثر من أي موقع آخر في ليبيا، كما كان يمكن أن يتحول كثير من المهاجرين إلى مصر إليها لتكون مستودعاً دائماً لإمداد عمر المختار في الشمال، وكان أحمد الشريف مستعداً للذهاب بنفسه، لو أمكن إعادة تنظيم القتال على تلك الصورة، للإشراف على العمليات الجهادية بنفسه

لقد تحدث محمد أسد عن سبب اهتمامه بالقضية السنوسية فقال: لم يكن اهتمامي البالغ بمصير السنوسيين ناشئاً عن إعجابي ببطولتهم المتناهية في قضية عادلة مقسطة فحسب، بل ان ماكان يهمني أكثر من ذلك هو ماكان يمكن أن يحدثه انتصار السنوسيين من تأثير على العالم العربي بأكمله إذ أنني لم استطع أن أرى في العالم الإسلامي كله إلا حركة واحدة كانت تسعى صادقة إلى تحقيق المجتمع الإسلامي المثالي: الحركة السنوسية، التي كانت تحارب الآن معركتها الأخيرة في سبيل الحياة وبسبب أن السيد أحمد كان يعرف مبلغ عطفي الشديد على القضية السنوسية، فقد التفت إلي وسدد نظره إلى عيني وسألني قائلاً: (هل تذهب، يامحمد إلى برقة بالنيابة عنا، فتقف على مايمكن صنعه للمجاهدين؟ لعلك تستطيع أن ترى الأمور بأجلى مما يراها بنو قومي ...)

وبعد أن وافق محمد أسد على تلك المهمة الصعبة تناول أحمد الشريف من على أحد الرفوف نسخة من القرآن الكريم ملفوفة بغلاف من الحرير، وبعد أن وضعها على ركبتيه أمسك بيدي اليمنى بين يديه ووضعها على الكتاب:

(أقسم يامحمد، بالله الذي يعلم مافي القلوب، على أنك ستبقى أميناً للمجاهدين ...).

قال محمد أسد: فأقسمت ولم أشعر في حياتي يوماً أنني كنت أكثر وثوقاً بوعدي مما كنت في تلك اللحظة

قام أحمد الشريف بترتيب أمور هذه الرحلة واتصل باتباع الحركة في مصر ووصل الخبر إلى عمر المختار واستعد محمد أسد لهذه الرحلة المثيرة مع رفيقه زيد من قبيلة شمّر، وشرع في تنفيذ خطواته وكان رجال الحركة السنوسية يقودونه بمهارة بارعة حتى وجد نفسه أمام عمر المختار في الجبل الأخضر وقد فصل الأستاذ محمد أسد تلك الرحلة في كتابه المشهور

لقاءه بعمر المختار :

بعد دخول محمد أسد إلى الجبل الأخضر من جهة الصحراء الغربية المصرية بواسطة المجاهدين الذين أرسلهم عمر المختار لاستقباله وجد محمد أسد نفسه أمام قائد حركة الجهاد ويصف لنا محمد أسد ذلك اللقاء فيقول: كان يحيط به رجلان من كل جانب، ويتبعه كذلك عدد آخر، وعندما وصل إلى الصخور التي كنا ننتظر عندها، ساعده أحد رجاله على النزول، ورأيت انه كان يمشي بصعوبة (عرفت بعدئذ أنه قد جرح إبان إحدى المناوشات قبل ذلك بعشرة أيام) وعلى ضوء القمر المشرق استطعت الآن أن أراه بوضوح: كان رجلاً معتدل القامة قوي البنية ذا لحية قصيرة بيضاء كالثلج تحيط بوجهه الكئيب ذي الخطوط العميقة. وكانت عيناه عميقتين، ومن الغضون المحيطة بهما كان باستطاعة المرء أن يعرف انهما كانتا ضاحكتين براقتين في غير هذه الظروف، إلا انهما لم يكن فيهما الآن شيء غير الظلمة والألم والشجاعة.

واقتربت منه لأحييه، وشعرت بالقوة التي ضغطت بها يده على يدي (مرحباًبك، يا ابني) قال ذلك وأخذ يجيل عينيه في متفحصاً: لقد كانت عيني رجل كان الخطر خبزه اليومي.

وفرش أحد رجاله حراماً على الأرض فجلس سيدي عمر عليه متثاقلاً. وانحنى عبدالرحمن ليقبل يده ثم شرع بعد استئذانه، يوقد ناراً خفيفة تحت الصخرة التي كنا محتمين بها وعلى ضوء النار الخافت، قرأ سيدي عمر الكتاب الذي حملنيه السيد أحمد إليه. لقد قرأه باهتمام وعناية، ثم طواه ووضعه لحظة فوق رأسه - وهي إمارة الإحترام والحب لايكاد المرء يراها في جزيرة العرب ولكنه كثيراً مايراها في شمالي افريقيا - ثم التفت إلي مبتسماًوقال: (لقد أطراك السيد أحمد، أطال الله عمره، في كتابه. أنت على استعداد لمساعدتنا، ولكنني لا أعلم من أين يمكن أن تأتينا النجدة، إلا من الله العلي الكريم. إننا حقاً على وشك أن نبلغ نهاية أجلنا ..).

فقلت: (ولكن .. هذه الخطة التي وضعها السيد أحمد، ألا يمكن أن تكون بداية جديدة؟ وإذا أمكن تدبير الحصول على المؤن والذخائر من الكفرة بصورة ثابتة، أفلا يمكن صد الإيطاليين؟ ).

لم أرى في حياتي ابتسامة تدل على ذلك القدر من المرارة واليأس كتلك الابتسامة التي رافقت جواب سيدي عمر: (الكفرة ...؟ لقد خسرنا الكفرة، فالإيطاليون قد احتلوها منذ أسبوعين تقريباً ...).

وأذهلني الخبر، ذلك إنني والسيد أحمد، طوال تلك الأشهر الماضية، كنا نبني خططنا على افتراض أن الكفرة يمكن أن تكون نقطة تجمع لتقوية المقاومة، أما وقد ضاعت كفرة فإنه لم يبق للسنوسيين سوى نجد الجبل الأخضر لاشيء سوى كماشة الإيطاليين التي كانوا يضيقونها بثبات واستمرار .. وخسارة نقطة بعد نقطة .. واختناق بطئ).

- وكيف سقطت الكفرة؟

فأومأ سيدي عمر إيماءة متعبة إلى أحد رجاله أن يقترب: (دع هذا الرجل يقص عليك الخبر .. إنه واحد من أولئك القلائل الذين هربوا من الكفرة، ولم يصل عندي إلا بالأمس).

وجلس الكفري على ردفيه أمامي وجذب برنسه البالي حوله وتكلم ببطء دون أن يبدو في صوته أي أثر للانفعال، ولكن وجهه الناحل كان يعكس جميع الأهوال التي شهدها.

- (لقد خرجوا علينا في ثلاث فرق من ثلاث جهات، وكان معهم سيارات مصفحة ومدافع ثقيلة كثيرة. أما طائراتهم فقد حلقت على علو منخفض ورمت بالقنابل البيوت والمساجد وغياض النخيل. لم يكن لدينا سوى بضع مئات من الرجال يستطيعون حمل السلاح، أما الباقون فقد كانوا نساء وأطفالاً وشيوخاً. لقد دافعنا عن أنفسنا بيتاً بيتاً، ولكنهم كانوا أقوى كثيراً منا، وفي النهاية لم يبق إلا قرية الهواري. لم تنفع بنادقنا في سياراتهم المصفحة فطغوا علينا، وتمكن عدد قليل جداً من الهرب. أما أنا فقد اختبأت في حدائق النخيل، مترقباً الفرصة لشق طريقي خلال الخطوط الإيطالية، وكنت طوال الليل أسمع ولولة النساء اللواتي كان الجنود الإيطاليون والعساكر الاريتريون يغتصبونهن وفي اليوم التالي احضرت لي امرأة عجوز بعض الماء والخبز، واخبرتني أن الجنرال الإيطالي قد حشد كل ماتبقى على قيد الحياة أمام قبر السيد محمد المهدي وأمام أعينهم مزق نسخة من القرآن الكريم ثم رماها الى الارض وداس عليها بحذائه صائحاً: (دعوا نبيكم البدوي يساعدكم الآن، اذا استطاع!) ثم أمر بقطع اشجار النخيل في الواحة وهدم آبارها، واحرق كل ماكان في مكتبة السيد احمد البدوي من كتب وفي اليوم التالي اصدر امره بوضع بعض شيوخنا وعلمائنا في طائرة حلقت بهم ورمتهم من علو شاهق، وطوال الليلة التالية كنت اسمع من مخبئي صرخات النساء وضحكات الجنود وطلقات بنادقهم ... واخيراً زحفت الى الصحراء في ظلام الليل فوجدت جملاً شارداً امتطيته ووليت فراراً...).

وعندما انهى الرجل قصته المروعة قربني سيدي عمر إليه بلطف وكرر قوله: (انك تستطيع ان ترى، يابني، اننا قد اقتربنا فعلاً من نهاية أجلنا) ثم اضاف: (اننا نقاتل لأن علينا ان نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة او نموت نحن وليس لنا ان نختار غير ذلك. إنا لله وإنا إليه راجعون - لقد ارسلنا نساءنا واولادنا الى مصر كيما نطمئن على سلامتهم متى شاء الله لنا أن نموت).

قلت: (ولكن ياسيدي عمر، اليس من الافضل لك وللمجاهدين ان تنسحبوا الى مصر بينما لايزال هناك طريق مفتوح امامكم؟ فلقد يكون من الممكن في مصر جمع المهاجرين الكثيرين من برقة وتنظيم قوة اكثر فعالية وجدوى. ان القتال هناك يجب ان يوقف بعض الوقت حتى يستعد الرجال شيئاً من قوتهم ... انا اعرف ان البريطانيين في مصر لاينظرون بعين الرضى الى وجود قوات ايطالية راسخة الاقدام على خاصرتهم، فقد يغضون الطرف، والله اعلم، عن استعداداتكم فيما اذا اقنعتموهم بانكم لا تعتبرونهم اعداء...).

فأجاب : (كلا ياابني، لم يعد هذا يجدي الآن. ان ماتقوله كان ممكناً منذ خمس عشرة او ست عشرة سنة، قبل ان يقوم السيد احمد، اطال الله عمره، بمهاجمة البريطانيين كي يساعد الاتراك - الذين لم يساعدونا ... أما الآن فلم يعد في الامر مايجدي.. ان البريطانيين لن يحركوا اصبعاً لكي يسهلوا علينا امرنا، والايطاليون مصممون على ان يقاتلونا حتى النهاية، وعلى سحق كل إمكانية للمقاومة في المستقبل، فاذا ذهبت واتباعي الآن الى مصر، فاننا لن نتمكن مطلقاً من العودة ثانية، وكيف نستطيع ان نتخلى عن قومنا ونتركهم ولا زعيم لهم، لاعداء الله يفترسونهم؟).

- وما قول السيد ادريس؟ هل يشاركك الرأي ياسيد عمر ؟

- (إن السيد ادريس رجل طيب. انه ولد طيب لوالد عظيم، ولكن الله لم يعطه قلباً يمكنه من تحمل مثل هذا الصراع...).

كان زيد الشمّري رفيق محمد اسد في رحلته بصحبة خليل احد المجاهدين لأحضار قرب الماء، وبعدما رجع وقع بصر خليل على سيدي عمر هجم لتقبيل يده، وبعد ذلك قدم محمد اسد زيداً الى عمر المختار فوضع المختار يده على كتفه وقال:

- (مرحباً بك، ياأخي، من أرض اجدادي. من أي العرب انت؟" وعندما اخبره زيد انه من قبيلة شمر، أومأ عمر برأسه مبتسماً : (آه ، اذن انت من قبيلة حاتم الطائي، اكرم الناس يداً...).

وقدم لهم رجال المختار بعض التمر ودعاهم المختار الى ذلك الطعام البسيط فأكلوا، ونهض قائد المجاهدين وقال: (آن لنا أن نتحرك من هنا. اننا على مقرب من المركز الايطالي في بوصفية، ولذا لا نستطيع ان نتأخر حتى الفجر..).

وتحرك محمد اسد مع قائد حركة الجهاد ووصل الى معسكر المجاهدين ووقعت عيناه على امرأتين احدهما مسنة والاخرى شابة - في المعسكر كانتا جالستين بالقرب من احد النيران، مستغرقتين في اصلاح سرج ممزق بمخرز غليظ.

وعندما لحظ الشيخ عمر المختار دهشة محمد اسد قال: (إن اختينا هاتين تذهبان معنا حيثما نذهب. لقد رفضتا ان تسعيا الى امن مصر مع سائر نسائنا واولادنا. انهما ام وابنتها، وقد فقدتا جميع رجالهما في الحرب...)

اتفق عمر المختار مع محمد اسد على طريقة امداد المجاهدين بالمؤن والعتاد والسلاح عن طريق الطريق التي جاء منها محمد اسد، مع انشاء مستودعات سرية في واحات بحرية وفرفرة وسيوه ، وكان عمر المختار يشك في امكانية الافلات من مراقبة الايطاليين بهذه الطريقة مدة طويلة.

وقد تبين بعد ذلك ان ظنونه ومخاوفه كانت في محلها، ذلك انه بعد بضعة اشهر تمكنت قافلة تحمل المؤمن والذخائر من الوصول فعلاً الى المجاهدين ، إلا ان الايطاليين اكتشفوها بينما كانت تجتاز الفجوة بين الجغبوب وجالو، وسريعاً ما انشأوا بعد ذلك مركزاً محصناً في بير طرفاوي على نصف المسافة تقريباً بين الواحتين، مما جعل، بالاضافة الى الدوريات الجوية المستمرة، كل مسعى آخر من هذا النوع خطراً الى أبعد الحدود.

وكان قد تقرر رجوع محمد اسد وزيد الشمرّي الى الحجاز ورجوع من حيث أتوا بواسطة المجاهدين البواسل الذي رتبوا الامور، وأخذوا بالاسباب، وحافظوا على ضيوفهم الكرام.

يقول محمد اسد: وودعت وزيد عمر المختار، ولم نره بعد ذلك اطلاقاً، ذلك انه بعد ثمانية أشهر، قبض عليه الايطاليون واعدموه.

وقدوصف لنا محمد اسد آخر لقاء مع السيد احمد الشريف فقال: ومرة اخرى وقفت امام إمام السنوسية ونظرت الى وجه ذلك المحارب القديم المرهق ، ومرة اخرى قبلت اليد التي حملت السيف طويلاً جداً حتى انها لم تعد تستطيع بعد ان تحمله.

- (بارك الله فيك، يابني.. لقد مضت سنة منذ ان التقينا اول مرة، وهذه السنة قد شهدت نهاية آمالنا ولكن الحمدلله على كل حال...).

والحق انها كانت سنة مفعمة بالهموم والاكدار بالنسبة الى احمد: لقد اصبحت الاخاديد حول فمه اكثر عمقاً، واصبح صوته اكثر انخفاضاً من أي وقت مضى.

لقد هوى النسر. انه يجلس منكمشاً على السجادة، وقد لف نفسه ببرنسه الابيض كأنما يطلب الدفء، ويحدق بصمت في الفراغ وهمس: (لو اننا استطعنا فقط ان ننقذ عمر المختار. لو اننا تمكنا من اقناعه بالهرب الى مصر بينما كان هناك متسع من الوقت...).

فقلت له : (لم يكن باستطاعة احد ان ينقذ سيدي عمر. انه لم يرد ان ينقذ. لقد فضل ان يموت اذا لم يستطع ان ينتصر. لقد عرفت ذلك عندما فارقته ياسيدي احمد ....).

إن احمد الشريف اهتم ببلاده بمجرد هجرته منها وكان على إتصال بالمجاهدين وقد حدثني السيد عبدالقادر بن علي أن احمد الشريف قام بكتابة رسائل الى قبائل برقة يحثهم فيها على السمع والطاعة للشيخ عمر المختار رحمهم الله.

الاسد يقع اسيراً:

ظل المختار في الجبل الاخضر يقاوم الطليان على الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة التي كانت تحيط به وبرجاله وكانت من عادة عمر المختار الانتقال في كل سنة من مركز اقامته الى المراكز الاخرى التي يقيم فيها إخوانه المجاهدون لتفقد احوالهم، وكان إذا ذهب لهذا الغرض يستعد للطوارئ ، ويأخذ معه قوة كافية تحرسه من العدو الذي يتربص به الدوائر في كل زمان ومكان، ولما أراد الله أن يختم له بالشهادة ذهب في هذه السنة كعادته في نفر قليل يقدر بمائة فارس، ولكنه عاد فرد من هذا العدد ستين فارساً وذهب في اربعين فقط. ويوجد في الجبل الأخضر واد عظيم معترض بين المجاهدين اسمه وادي الجريب (بالتصغير) وهو صعب المسالك كثير الغابات، كان لابد من اجتيازه ، فمر به عمر المختار ومن معه ، وباتوا فيه ليلتين ، وعلمت بهذا ايطاليا بواسطة جواسيسها في كل مكان ، فأمرت بتطويق الوادي على عجل من جميع الجهات بعد أن جمعت كل ماعندها من قوة قريبة وبعيدة، فما شعر عمر المختار ومن معه إلا وهم وسط العدو؛ وقرر منازلة الاعداء وجهاً لوجه فأما أن يشق طريقاً يمكنه من النجاة أو يلقى ربه شهيداً في الميدان الذي ألف فيه مصارعة الأعداء، والتحمت المعركة داخل الوادي، وحصد رصاص المجاهدين عدداً كبيراً من الأعداء، وسقط الشهداء، وأصيب عمر المختار بجراح في يده، وأصيب فرسه بضربة قاتلة، وحصلت يده السليمة تحت الفرس فلم يتمكن من سحبها ، ولم تسعفه يده الجريحة وأصبح لسان حاله يقول:

أسرت وماصحبي بعزل لدى الوغى

وكم من صدى صوتي ليوث الشرى فروا

وما أحد في الحرب يجهل سطوتي ولا

فرسي مهر ولا ربه غمر

ولكن إذا حم القضاء على أمرئ

يكون ولا يغني من القدر الحذر

ومن رام من أمر الاله وقايه

فليس له بر يقيه ولا بحر

والتفت المجاهد بن قويرش فرأى الموقف المحزن وصاح في إخوانه الذين شقوا الطريق للخروج من الحصار قائلاً: (الحاجة التي تنفع عقبت أي تخلفت) ، فعادوا لتخليص قائدهم ولكن رصاص الطليان حصد أغلبهم، وكان ابن قويرش اول من قتل وهو يحاول انقاذ الشيخ الجليل ، وهجم جنود الطليان على الاسد الجريح دون ان يعرفوا شخصيته في البداية، وتم القبض عليه وتعرف عليه احد الخونة، وجاء الكمندتور داود باتشي متصرف درنة ليتعرف على الاسير وبمثل سرعة البرق نقل عمر المختار الى ميناء سوسة محاطاً بعدد كبير من الضباط والجنود الايطاليين، وأخذت كافة الاحتياطات لحراسة جميع الطرق والمواقع القريبة لتأمين وصول المجاهد العظيم الى سوسة ومن ثم نقل فوراً الى بنغازي عن طريق البحر

يقول غراسياني في مذكراته: في صباح يوم 11 سبتمبر 1931م وصل الخبر برقياً الى الحكومة من متصرفية الجبل هذا نصها: (بالقرب من (سلطنة) فرقة الفرسان (الصواري) قبضت على وطني وقع من على جواده اثناء المعركة وقد تعرف عليه عساكرنا بأنه عمر المختار ونظراً للخبر المهم ومن اجل التأكد والتحقق أمرت الحكومة متصرف الجبل الحكومندتور (الوجيه داود ياتشي) فجهزت طائرة خاصة لنقله الى (سلطنة) على الفور للتعرف على شخصية الاسير وتثبت هويته ان كان هو زعيم المجاهدين عمر المختار وتأكد متصرف الجبل من انه عمر المختار وسرى الخبر سريان البرق وصدرت الاوامر بنقله الى سلطنة ومنها الى سوسة تحت حراسة شديدة حيث وصلها عند السابعة عشر من مساء نفس اليوم سبتمر 1931م دون أي عائق ، او حادث اثناء الطريق من سلطنة الى سوسة مكث هناك في انتظار الطراد الحربي (اورسيني) الذي تحرك من بنغازي خصيصاً ليعود بالاسير الى بنغازي وفي اثناء الرحلة تحدث معه بعض السياسيين التابعين لادارتنا ووجهوا إليه الاسئلة، فكان يجيب بكل هدوء وبصوت ثابت وقوي دون أي تأثر بالموقف الذي هو فيه وفي يوم 12 سبتمر 1931م عند الساعة السابعة عشر وصل الطراد اورسيني الى ميناء بنغازي حاملاً معه الاسير عمر المختار...) وقال أيضاً هذا الرجل اسطورة الزمان الذي نجا آلاف المرات من الموت ومن الاسر واشتهر عند الجنود بالقداسة والاحترام لأنه الرأس المفكر والقلب النابض للثورة العربية (الاسلامية) في برقة وكذلك كان المنظم للقتال بصبر ومهارة فريدة لا مثيل لها سنين طويلة والآن وقع اسيراً في ايدينا.

وهذا الاعتراف من غراسياني الخسيس في كتابه بأن عمر المختار قاد المعارك سنين طويلة واعترف بانه محترم من اتباعه الى مكانة عالية جداً ثم بأنه الرأس المفكر والقلب النابض للجهاد الاسلامي المقدس في برقة ثم الصبر والمهارة التي لا مثيل لها فهذا اعتراف من الجنرال غراسياني خريج الكليات الحربية والاكاديمية العسكرية وله تجارب طويلة في حرب الاحتلال الى حرب العالمية الاولى وحروبه الصحراوية حتى لقبه بنو قومه بلقب اسد الصحراء والفضل ما شهدت به الاعداء.

ويقول الجنرال غراسياني عن عمر المختار ايضاً: (كان عمر المختار كرئيس عربي مؤمن بقضية وطنه وله تأثير كبير على اتباعه مثل الرؤساء الطرابلسيين يحاربون بكل صدق واخلاص اقول ذلك عن تجارب مرت بي اثناء الحروب الليبية وكان عمر المختار من المجاهدين الكبار لما له من مكانة مقدسة بين اتباعه ومحبيه، ان عمر المختار يختلف عن الآخرين فهو شيخ متدين بدون شك، قاسي وشديد التعصب للدين ورحيم عند المقدرة ذنبه الوحيد يكرهنا كثيراً وفي بعض الاوقات يسلط علينا لسانه ويعاملنا بغلظة ، مثل الجبليين كان دائماً مضاداً لنا ولسياستنا في كل الأحوال لا يلين ابداً ولا يهادن إلا اذا كان الموضوع في صالح الوطن العربي الليبي، ولم يخن ابداً مبادئه فهو دائماً موضع الاحترام رغم التصرفات التي تحدث منه في غير صالحنا ان خيانة موقعة (قصر بنقدين) ضيعت على عمر المختار كل الفرص التي يمكن للدولة الايطالية ان ترحمه فيها

وقال غراسياني في مذكراته: (أما وصف عمر المختار فهو معتدل الجسم عريض المنكبين شعر رأسه ولحيته وشواربه بيضاء ناصعة، يتمتع بذكاء حاضر وحاد، كان مثقفاً ثقافة علمية دينية له طبع حاد ومندفع يتمتع بنزاهة خارقة لم يحسب للمادة أي حساب متصلب ومتعصب لدينه، واخيراً كان فقيراً لا يملك شيئاً من حطام الدنيا إلا حبه لدينه ووطنه رغم انه وصل الى أعلى الدرجات حتى اصبح ممثلاً كبيراً للسنوسية كلها) وهذا وصف دقيق يدل بوضوح على عظمة المختار وامكانياته الذاتية التي وهبه الله اياها فتقلد بسببها اكبر المناصب وخاض اكثر المعارك وصفه عدوه بصفات الورع والتدين ومثقف ثقافة دينية وعلمية وصفه بشدة المراس والصبر على الشدائد وهكذا ياأخي المسلم الكريم يصنع الاسلام من اتباعه.

دخول المختار في سجن بنغازي:

وعندما وصل الاسير الى بنغازي لم يسمح لأي مراسل جريدة او مجلة بنشر اخبار او مقابلات وكان على الرصيف مئات من المشاهدين عند نزوله في الميناء ولم يتمكن أي شخص مهما كان مركزه ان يقترب من الموكب المحاط بالجنود المدججين بالسلاح ونقل فوق سيارة السجن تصحبه قوة مسلحة بالمدافع الرشاشة حيث اودع في زنزانة صغيرة خاصة منعزلة عن كافة السجناء السياسيين وتحت حراسة شديدة وجديدة ويقول مترجم كتاب برقة الهادئة الاستاذ ابراهيم سالم عامر كنت من الذين أسعدهم الحظ على ان يتكلموا مع بطل الجهاد عمر المختار اثناء قيامه في السجن فقد أوقفوا كل الاهالي المعتبرين في مراكز الامن والسجون وكان نصيبي في سجن بنغازي المركزي وعندماأتى بعمر المختار غيروا الحراس المحليين بحراس أريتريين والموظفين بالايطاليين من الحزب الفاشيستي وبعد ان اودعوه في الزنزانة كان هناك سرير من خشب وقماش وعلى الارض قطعة من السجاد البالي لأجل وقع الرجلين عليه فسحبها الشهيد بقرب الجدران وجلس عليها واستند على الجدران ومد رجليه الى الامام وعندما كان مدير السجن يتجول على زنزانات السجناء رأى الشهيد جالساً على الارض ولم يستطيع ان يساله لماذا هو جالس على الارض. ولأن المدير لايعرف العربية فناداني من بين السجناء السياسيين وطلب مني ان اترجم سؤاله فسألت الشهيد، فاجاب بصوت هادر كالأسد الهصور: قل له أنا اعرف اين اجلس لا يحمل هماً فهذا ليس من شأنه فترجمت الكلام فانصعق المدير واصفر وجهه وقال هيا ارجع الى مكانك بلهجة الامر غير ان قلبي كاد يطير من صدري فرحاً عندما سمعت هذه الاجابة القاطعة رحم الله عمر المختار كم كان عظيماً وهو قائم واعظم وهو اسير

ويقول غراسياني الجنرال الايطالي السفاك الجلاد: (واثناء الرحلة من سوسة الى بنغازي أعطى لنا معلومات هامة عن كيفية سقوطه في الأسر والقبض عليه قائلاً عندما ضرب جواده وسقط على الارض فجرحت يده اليمنى مما سببت له بعض التشقق في عظام ذراعه ورغم هذا الآلم حاول جر نفسه ليبتعد ويختفي في احد الشجرات التي في الغابة ولكن فرقة الفرسان حالت بينه وبين غرضه وقد تعرف عليه احد الصواري من فرقة الفرسان وسرعان ما أحاطت به قوتنا وقد تأسف كثيراً اثناء حديثه بأن رفاقه حاولوا انقاذه بكل وسيلة وقد ضاع منهم بعض الرفاق ولكن الكثرة حالت دون بغيتهم كذلك قلة الذخيرة لها عاملها الاصلي في عدم انقاذي واثبت كذلك ان وقوعه في الاسر لا يعني توقف الثورة والجهاد بل هناك اربعة من القادة يحلون محلي وهم الشيخ حمد بوموسى، عثمان الشامي وعبدالحميد العبار ويوسف بورحيل المسماري وهذا الاخير هو أقربهم إليه لانه كان دائماً بجانبه ، ولقد بالغ كثيراً بالنسبة لعدد الجنود فقد قال ان دوره يتكون من 500 مقاتل عادي، 400 فارس. واستطرد قائلاً شارحاً ان وقوعه في الأسر لا يؤثر ولا يغير سير القتال او وضع الدور بل سيزداد قساوة ثم اضاف اني احارب الايطاليين الفاشيستيين لا لأني اكره الشعب الايطالي ولكن ديني أمرني بالجهاد فيكم لأنكم أعداء الوطن

قلت ما أعلم احد من المسلمين الصادقين يجد في نفسه وداً للنصارى على العموم فكيف بالذين يقولون الله ثالث ثلاثة ويقولون عيسى ابن الله، لكن قول غراسياني ان عمر المختار لا يبغض الشعب الايطالي فهذا ادعاء منه واما قول عمر المختار ديني امرني بقتالكم فهذا الذي يليق بحاله وبغض المسلم للنصارى الكفرة يدينون بها خالقهم ورازقهم ، ومالكهم ومتولي أمورهم سبحانه وتعالى عما يقولون الظالمون علواً كبيراً.

قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة ومامن إله إلا اله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب إليم ` أفلا يتوبون الى الله ويستغفورنه والله غفور رحيم}. (سورة المائدة ، الآيات:72،73،74).

وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّ تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هداً ان دعو للرحمن ولداً} ( سورة مريم: الآيات 88 الى 91).

فالآيات السابقة الواضحة البينة تمنع العالم الرباني والشيخ الجليل ان يقول بأنه لا يبغض اعداء الله حمات الصليب.

واستطرد غراسياني في كتابه برقة الهادئة قال : (لقد قال عمر المختار كلمات تاريخية : إن وقوعي في الأسر تأكيد بأمر الله وسابق في علمه سبحانه وتعالى والآن أنا بين يدي الحكومة الايطالية الفاشيستية وأصبحت أسيراً عندها والله يفعل بي مايشاء. أخذتموني أسيراً ولكم القدرة أن تفعلوا بي ماتشاؤون والذي اريد أن أقوله بكل تأكيد لم أفكر في يوم من الايام أن أسلم نفسي لكم مهما كان الضغط شديداً ولكن مشيئة الله ارادت هذا فلا راد لقضاء الله).

وهذه بعينها عقيدة القضاء والقدر وهي من اركان الايمان التي جاء بها الاسلام وقد تجسدت في حياة عمر المختار فهذه الآيات الكريمة تبين ماوقع للانسان قد كتب فعليه ألاّ يحزن ولاييأس لان الأمور بقضائه وقدره قال تعالى: {ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل ان نبرأها ان ذلك على الله يسير لكي لاتأسوا على مافاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لايحب كل مختال فخور}( سورة الحديد، آية 22).

وقد تربى المختار رحمه الله تعالى على الايات القرآنية واحاديث المصطفى e فعن ابن عباس عن رسول الله e : واعلم ان الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الاقلام وجفت الصحف.

وهذه العقيدة الصحيحة كانت مستقرة في قلب الشيخ الجليل رحمه الله وتحولت الى عمل في حياته جسدته مواقف عقدية ومشاهد بطولية ولا نكون مخطيئن ان قلنا كانت مواقفه وسيرته العطرة تدل على أنه رجل عقيدة.

من مواقف العزة داخل السجن:

اراد الكمندتور رينسي (السكرتير العام لحكومة برقة) في أمسية الرابع عشر من سبتمبر أن يقحم الشارف الغرياني في موقف حرج مع عمر المختار وهو في السجن وابلغ الشارف الغرياني بأن المختار طلب مقابلتك والحكومة الايطالية لاترى مانعاً من تلبية طلبه، وذهب الشارف الغرياني الى السجن لمقابلة الشيخ الجليل وعندما ألتقيا خيم السكوت الرهيب ولم يتكلم المختار فقال الشارف الغرياني هذا المثل الشعبي مخاطباً به السيد عمر (الحاصلة سقيمة والصقر مايتخبل) وماكاد المختار يسمع المثل المذكور حتى رفع رأسه ونظر بحدة الى الشارف الغرياني وقال له: الحمد لله الذي لايحمد على مكروه سواه وسكت هنيئة ثم اردف قائلاً: رب هب لي من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، أنني لم أكن في حاجة الى وعظ او تلقين، أنني أومن بالقضاء والقدر، وأعرف فضائل الصبر والتسليم لإرادة الله ، أنني متعب من الجلوس هنا فقل لي ماذا تريد، وهنا أيقن الشارف الغرياني بأنه غرّر به فزاد تأثره وقال للمختار: ماوددت أن أراك هكذا ولقد أرغمت نفسي للمجيء بناءً على طلبك... فقال الشيخ الجليل، والجبل الشامخ أنا لم أطلبك ولن أطلب أحداً ولا حاجة لي عند أحد، ووقف دون أن ينتظر جواباً من الشارف الغرياني، وعاد الاخير الى منزله وهو مهموم حزين وقد صرّح بأنه شعر في ذلك اليوم بشيء ثقيل في نفسه ما شعر به طيلة حياته، ولما سئل الشارف الغرياني عن نوع الثياب التي كان يرتديها عمر المختار أهي ثياب السجن ام ثيابه التي وقع بها في الاسر كان جوابه هو البيتان الآتيان مستشهداً بهما:

عليه ثياب لو تقاس جميعها

بفلسٍ لكان الفلس منهن اكثرا

وفيهن نفس لو تقاس ببعضها

نفوس الورى كانت أجل وأكبرا

عمر المختار أمام غراسياني السفاح:

اراد المولى عز وجل لحكمة يريدها أن يقف البطل الأشم والطود الشامخ الذي حير ايطاليا الكافرة النصرانية الكاثوليكية واشاع الرعب في قلوب جيوشها، أمام الرجل التافه الحقير المدعو غراسياني هذا حقير النفسية ، وضيع الاخلاق ، من أولئك الذين يرتفعون في كل عهد، ويأكلون على كل مائدة وكان من قادة الجيش الايطالي فلما جاء موسوليني ذلك الطبل الاجوف، وادعّى الزعامة على ايطاليا وحشر نفسه حشراً في صفوف الزعامات العالمية، كان غراسياني اول من صفق وقرع الطبول للزعامة الجديدة، وصار فاشيستياً أكثر من الفاشيستيين أنفسهم، امام هذا الرجل الحقير الذليل الخسيس التافة وقف البطل الأشم والطود المنيف شيخنا عمر المختار رحمه الله وتستطيع أن تفكر في هذا الموقف وتطيل التفكير، فإن النفوس الحقيرة الوضيعة ، لاتعرف الشرف، ولا الرجولة ولا الكرامة ولا الاخلاق إذا خاصمت، فما يكاد عدوها يقع في يدها حتى تفعل به الافاعيل ، وتصب عليه أصنافاً وألوناً من العذاب!! يدفعها الى ذلك ، شدة إحساسها بحقدها وعظمة عدوها، وشدة شعورها بنقصها وكمال اسيرها

من اجل ذلك دفعت الشماتة هذا الرجل الحقير أن يقطع رحلته الى باريس وان يعود فوراً الى بنغازي، وأن يدعوا المحكمة الطائرة الى الانعقاد ودفعت غريزة الشماته غراسياني أن يستدعي البطل في صبيحة اليوم نفسه، وقبل المحاكمة بقليل

يقول غراسياني في مذكراته : (وعندما حضر امام مدخل مكتبي تهيأ لي أني ارى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم اثناء قيامي بالحروب الصحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة وجهه مضغوطاً لأنه كان مغطياً رأسه (بالجرد) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالاجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال منظره وهيبته رغم إنه يشعر بمرارة الاسر. هاهو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ، وواضح وكان ترجماني المخلص النقيب (كابتن) خليفة خالد الغرياني الذي احضرته معي خصيصاً من طرابلس ووجهت له اول سؤال : لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشيستية؟

ج- لأن ديني يأمرني بذلك.

س- هل كنت تأمل في يوم من الايام أن تطردنا من برقة بامكانياتك الضئيلة وعددك القليل.

ج- لا هذا كان مستحيلاً.

س- إذاً ماالذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟

ج- لا شيء إلا طردكم من بلادي لأنكم مغتصبون ، أما الحرب فهو فرض علينا وماالنصر إلا من عند الله.

س- لكن كتابك يقول: {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة} بمعنى لاتجلبوا الضرر لأنفسكم ولا لغيركم من الناس، القرآن يقول هذا.

ج- نعم.

س- إذاً لماذا تحارب؟

ج- كما قلت من أجل وطني وديني.

قال غراسياني : فما كان مني إلا أن قلت له أنت تحارب من أجل السنوسية تلك المنظمة التي كانت السبب في تدمير الشعب والبلاد على السواء وفي الوقت نفسه كانت المنظمة تستغل أموال الناس بدون حق هذا هو الحافز الذي جعلك تحاربنا لا الدين والوطن كما قلت .

عمر المختار: نظر اليّ نظرة حادة كالوحش المفترس: لست على حق فيما تقول ولك أن تظن ماظننت ولكن الحقيقة الساطعة التي لا غبار عليها أنني أحاربكم من أجل ديني ووطني لا كما قلت بان عليّ وجهه بعد أن زال الجرد من على رأسه واستطردت في توجيه الاسئلة إليه:

س- لماذا قطعت المهادنة السارية وامرت بالهجوم على (قصر بن قدين) .

ج- لأنه منذ شهر ارسلت الى المارشال (بادوليو) ولم يجيبني عنها وبقيت بدون رد حتى الآن.

يقول الجنرال لا أنت أردت قطع المهادنة لحاجة في نفسك وهاك الدليل وقرأت له البيان الذي نشره فوق الجرائد المصرية بتوقيعه؟ولم يرد في بادئ الأمر وحنى رأسه مفكراً ثم قال:

عمر المختار - نعم نشرت البيان في مصر بتوقيعي ولكن ليس هذا هو الدليل وإنما هو عدم تجاوبكم معنا في تنفيذ شروط الهدنة، ولم يزد شيئاً بل حنى راسه اعياء.

س- هل أمرت بقتل الطيارين هوبر وبياتي.

ج- نعم: كل الاخطاء والتهم في الواقع هي مسؤولية الرئيس والحرب هي الحرب.

الجنرال : قلت له هذا صحيح لو كان حرباً حقيقية لا قتل وسلب مثل حروبك.

عمر المختار: هذا رأي، فيه إعادة نظر وانت الذي تقول هذا الكلام ولازلت أكرر لك الحرب هي الحرب.

الجنرال: بموقفك في موقعة (قصربن قدين) ضيعت كل أمل وكل حق في الحصول على رحمة وعفو الحكومة الايطالية الفاشيستية.

عمر المختار: مكتوب (كلمة لتفسير معنى القضاء والقدر في العقيدة الاسلامية) وعلى كل عندما وقع جوادي وألقي القبض عليّ كانت معي ست طلقات وكان في استطاعتي أن أدافع عن نفسي وأقتل كل من يقترب مني حتى الذي قبض عليّ وهو أحد الجنود من فرقة الصواري المتطوعين معكم وكان في إمكاني كذلك أن أقتل نفسي.

الجنرال: ولماذا لم تفعل؟

عمر المختار: لأنه كان مقدراً أن يكون.

الجنرال: ولكن قد تحقق فيما بعد إلقاء القبض عليه كانت بندقيته فوق ظهره وبسقوطه على الأرض لم يستطيع نزعها وبالتالي لم يتمكن من استعمالها بسرعة وكذلك من أثر الجروح والكسر الذي بيده اليمنى وهذا في الحقيقة جدير بالاعتبار والتقدير.

وهذا اعتراف من السفاح إبان تجبره وطغيانه ونشوة انتصاره يعترف بقوة عمر المختار ويقدر فيه بطولته وجهاده التي لم يرلها مثيل وقال شوقي رحمه الله في رثاء عمر المختار مايجسد هذا الموقف:

جرح يصيح على المدى وضحيه

تلتمس الحرية الحمراء

عمر المختار: كما ترى أنا طاعن في السن على الاقل اتركني بأن أجلس .

الجنرال: أشرت له فجلس على كرسيه أمام مكتبي وفي هذه الاثناء ظهر لي وجهه بوضوح وقد زالت رهبة الموقف وقد تأملته جانبياً فرأيت بعض الاحمرار في وجهه وبدأت أفكر كيف كان يحكم ويقود المعارك. وبينما هو يتكلم كانت نظراته ثابتة الى الامام وصوته نابع من أعماقه ويخرج من بين شفتيه بكلمات ثابتة وبكل هدوء وفكرت ثانية هذا هو القديس، لان كلامه عن الدين والجهاد يدل بكل تأكيد أنه مؤمن صادق يتكلم عن الدين بكل حماس وتأثر . ثم قلت له فجأة: بمالك من نفوذ وجاه كم يوم يمكنك أن تأمر العصاة (يعني المجاهدين) بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا اسلحتنا وينهوا الحرب.

عمر المختار: مجيباً أبداً كأسير لايمكنني أن أعمل أي شيء واستطرد قائلاً: وبدون جدوى نحن الثوار سبق أن أقسمنا أن نموت كلنا الواحد بعد الآخر ولانسلّم أو نلقى السلاح وأنا هنا لم يسبق لي أن استسلمت هنا على ماأظن حقيقي وثابت عندكم.

الجنرال: قلت له وانا متماسك يمكن ذلك لو تم تعارفنا في وقت سابق والخبرة طويلة التي أخذتها عليكم لكان علينا ان نصل الى احسن حال في سبيل تهدئة البلاد وازدهارها.

(عمر المختار) : رفع حاجيبه بكل عمق وبصوت جهوري، وثابت قال: ولم لا يكن اليوم هو ذلك اليوم الذي تقول عنه.

الجنرال: فأجبته: لقد فات الأوان.

وعند هذا الحد رأيت ان نوقف المحادثة فيما بيننا ربما عمر المختار فكر في تلك اللحظة أن الحكومة الايطالية ستبعثه الى الجبل من أجل أن يسلّم أتباعه السلاح ويخضعوا الى سلطتنا ولكن لا : لقد قالها منذ لحظات بأنهم يموتون جميعاً ولن يستسلموا وعليه لقد فات الأوان وقلتها بنفسك لا فائدة من المحاولة إن الامل الذي لاح منذ قليل قد انهار ولم يعد . ثم قلت له: هل تعرف هذه وعرضت عليه نظاراته في إطارها الفضي.

عمر المختار: نعم إنها لي وقد وقعت مني اثناء احدى المعارك وهي معركة (وادي السانية).

(الجنرال) فأجبته: منذ ذلك اليوم اقتنعت بأنك ستقع أسيراً بين يدي.

عمر المختار: مكتوب : هل ترجعها لي لأني لم أعد أبصر جيداً بدونها.

واستطرد يقول ولكن ما الفائدة منها الآن هي وصاحبها بين يديك.

(الجنرال) قلت له: مرة اخرى أنت تعتبر نفسك محمياً من الله تحارب من أجل قضية مقدسة وعادلة؟

(عمر المختار) نعم وليس هناك أي شك في ذلك. قال الله تعالى: { قل لن يصيبنا إلا ماكتب الله لنا} صدق الله العظيم.

إذاً استمع الى ماأقوله لك. أمام قواتي المسلحة من نالوت الى الجبل الاخضر في برقة كل مشايخ ورؤساء العصاة (يعني رؤساء المجاهدين) منهم من هرب ومنهم من قتل في ميدان القتال ولم يقع منهم أي احد حياً في يدي أليس من العجيب أن يقع أسيراً بين يدي حياً من كان يعتبر اسطورة الزمن الذي لم يغلب ابداً المحمي من الله دون سواه؟؟

(عمر المختار) تلك مشيئة الله ... قالها بصوت يدل على قوة وعزم.

(الجنرال) قلت له: الحياة وتجاربها تجعلني أعتقد وأؤمن بأنك كنت دائماً قوياً ولهذا فإني أتمنى أن تكون كذلك مهما يحدث لك ومهما تكن الظروف.

(عمر المختار) عندما وقف ليتهيأ للانصراف ، كان جبينه وضاء كأن هالة من نور تحيط به فارتعش قلبي من جلالة الموقف أنا الذي خاض المعارك والحروب العالمية ، والصحراوية ، ولقبت باسد الصحراء، ورغم هذا فقط كانت شفتاي ترتعشان ولم استطع أن أنبس بحرف واحد فأنتهت المقابلة وأمرت بإرجاعه الى السجن لتقديمه للمحاكمة في المساء وعند وقوفه حاول أن يمد يده لمصافحتي ولكنه لم يتمكن لأن يديه كانت مكبلة بالحديد.

لقد خرج من مكتبي كما دخل عليّ وأنا أنظر إليه بكل إعجاب وتقدير

قال شوقي رحمه الله:

واتى الامير يجر ثقل حديده

أسد يجرجر حية رقطاء

محاكمة عمر المختار رحمه الله :

في الساعة الخامسة مساءً في 15 سبتمبر 1931م جرت تلك المحاكمة التي أعد لها الطليان مكان بناء (برلمان برقة) القديم وكانت محاكمة صورية شكلاً وموضوعاً.

ودليل ذلك أن الطليان قبحهم الله كانوا قبل بدء المحاكمة بيوم واحد قد أعدوا (المشنقة) وانتهوا من ترتيبات الإعدام وتنفيذ الحكم قبل صدوره، وإنك لتلمس ذلك في نهاية الحديث الذي دار بين البطل وبين غراسياني حيث قال له (إني لأرجو أن تظل شجاعاً مهما حدث لك أو نزل بك).

وإنها لكلمات تفوح بالخبث والدناءة والشماتة، ومعناها إنك يامختار سوف تعدم شنقاً، فلا تجبن أمام المشنقة ولاشك عندي لو كان غراسياني في موقف شيخنا لمات من الجبن قبل أن يساق للمشنقة ولكن شيخنا الجليل وأستاذنا الكريم وقائد الجهاد يزداد سمواً بعد سمو ثم يقول (إن شاء الله).

ويصف الدكتور العنيزي ذلك فيقول (جاء الطليان بالسيد عمر المختار إلى قاعة الجلسة مكبلاً بالحديد، وحوله الحرس من كل جانب .. وكان مكاني في القاعة بجوار السيد عمر وأحضر الطليان أحد التراجمة الرسميين واسمه نصرت هرمس (فلما افتتحت الجلسة وبدأ استجواب السيد، بلغ التأثر بالترجمان، حداً جعله لايستطيع إخفاء تأثره وظهر عليه الارتباك، فأمر رئيس المحكمة بإستبعاده وإحضار ترجمان آخر فوقع الاختيار على أحد اليهود، وهو لمبروزو، من بين الحاضرين في الجلسة (وقام لمبروزو بدور المترجم، وكان السيد عمر رحمه الله جريئاً صريحاً، يصحح للمحكمة بعض الوقائع، خصوصاً حادث الطيارين الإيطاليين أوبر وبياتي.

وبعد استجواب السيد ومناقشته وقف المدعي العام بيدندو، فطلب الحكم على السيد بالإعدام.

(وعندما جاء دور المحامي المعهود إليه بالدفاع عن السيد عمر وكان ضابطاً إيطالياً يدعى الكابتن لونتانو، وقف وقال: (كجندي لا أتردد البته إذا وقعت عيناي على عمر المختار في ميدان القتال، في إطلاق الرصاص عليه وقتله وافعل ذلك كإيطالي أمقته وأكرهه، ولكنني وقد كلفت الدفاع عنه فإني اطلب حكماً، هو في نظري أشد هولاً من الإعدام نفسه، وأقصد بذلك الحكم عليه بالسجن مدى الحياة نظراً لكبر سنه وشيخوخته).

وعندئذ تدخل المدعي العمومي، وقطع الحديث على المحامي وطلب من رئيس المحكمة أن يمنعه من إتمام مرافعته مستنداً في طلبه هذا إلى أن الدفاع خرج عن الموضوع، وليس من حقه أن يتكلم عن كبر سن عمر المختار وشيخوخته ووافقت المحكمة، أمر القاضي المحامي بأن لايخرج عن الموضوع ويتكلم بإيجاز، وهنا تكلم المحامي بحدة وقال: إن عمر المختار الذي هو أمامكم وليد هذه الأرض قبل وجودكم فيها ويعتبر كل من احتلها عنوة عدو له ومن حقه أن يقاومه بكل مايملك من قوة حتى يخرجه منها أو يهلك دونها هذا حق أعطته له الطبيعة والإنسانية، وهنا كثر الصياح من الحاضرين بإخراج المحامي وإصدار الحكم على المتهم الذي طالب به المدعي العام. ولكن المحامي استمر قائلاً العدالة الحقة لاتخضع لأي سلطان ولا لأية غوغاء وإنما يجب أن تنبع من ضميرنا وإنسانيتنا وهنا قامت الفوضى خارج المحكمة، وقام المدعي العام محتجاً على المحامي، ولكن المحامي استمر في دفاعه غير مبال بكل هذا بل حذر القاضي أن يحكم ضميره قائلاً: إن هذا المتهم عمر المختار الذي انتدبت من سوء حظي أن أدافع عنه شيخ هرم حنت كاهله السنون وماذا بقي له من العمر بعد ما أتم السبعين سنة وإني أطلب من عدالة المحكمة أن تكون رحيمة من (تحقيق) العقوبة عنه لأنه صاحب حق ولايضر العدالة إذا انصفته بحكم أخف وإنني أحذر عدالة محكمتكم حكم التاريخ لأنه لايرحم فهو عجلة تدور وتسجل كل مايحدث في هذا العالم المضطرب وهنا كثر الضجيج في الخارج ضد المحامي ودفاعه.

ولكن المحامي استمر في دفاعه قائلاً: سيدي القاضي حضرات المستشارين لقد حذرت المحكمة من مغبة العالم الإنساني والتاريخ وليس لدي ما أضيفه إلاّ طلب تخفيف الحكم على هذا الرجل صاحب الحق من الذود عن أرضه ودينه وشكراً).

وعندما قام النائب العام لمواصلة احتجاجه قاطعه القاضي برفع الجلسة للمداولة وبعد مضي فترة قصيرة من الانتظار دخل القاضي والمستشاران والمدعي العام بينما المحامي لم يحضر لتلاوة الحكم القاضي بإعدام عمر المختار شنقاً حتى الموت وعندما ترجم الحكم إلى عمر المختار قهقه بكل شجاعة قائلاً الحكم حكم الله لاحكمكم المزيف - إنا لله وإنا إليه راجعون.

وأراد رئيس المحكمة أن يعرف ماقاله السيد عمر .. فسأل الترجمان أن ينقل إليه عبارته، ففعل، وعندئذ، بدا التأثير العميق على وجوه الإيطاليين أنفسهم الذين حضروا هذه المحكمة الصورية وأظهروا إعجابهم لشجاعة شيخ المجاهدين بليبيا الحبيبة وبسالته في آن واحد.

وأما المحكمة، فقد استغرقت من بدئها إلى نهايتها ساعة واحدة وخمس عشرة دقيقة فحسب، من الساعة الخامسة مساء إلى الساعة السادسة والربع وكذلك قضت إرادة الله تعالى أن يتحكم الطليان في مصير البطل، لتتم الإرادة الإلهية وتمضي الحكمة الربانية.

{وربك يخلق مايشاء ويختار ماكان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عمّا يشركون} (سورة القصص، آية 68).

{ما أصاب من مصيبة إلاّ بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم} (سورة التغابن: آية 110).

إعدام شيخ الجهاد في بلادنا الحبيبة:

وفي يوم 16 سبتمبر من صباح يوم الأربعاء من سنة 1931 عند الساعة التاسعة صباحاً نفذ الطليان في (سلوق) جنوب مدينة بنغازي حكم الاعدام شنقاً في شيخ الجهاد وأسد الجبل الاخضر بعد جهاد طويل ومرير .

ودفعت الخسة بالايطاليين أن يفعلوا عجباً في تاريخ الشعوب ، وذلك انهم حرصوا على ان يجمعوا حشداً عظيماً لمشاهدة التنفيذ فأرغموا أعيان بنغازي، وعدداً كبيراً من الاهالي من مختلف الجهات على حضور عملية التنفيذ فحضر مالا يقل عن عشرين الف نسمة . على حد قول غراسياني في كتاب برقة الهادئة.

ويقول الدكتور العنيزي ( لقد ارغم الطليان الاهالي والاعيان المعتقلين في معسكرات الاعتقال والنازلين في بنغازي على حضور المحاكمة، وحضور التنفيذ وكنت احد اولئك الذين ارغمهم الطليان على المحاكمة، ولكني وقد استبد بي الحزن شأني في ذلك شأن سائر ابناء جلدتي، لم اكن استطيع رؤية البطل المجاهد على حبل المشنقة فمرضت، ولم يعفني الطليان من حضور التنفيذ في ذلك اليوم المشئوم، الا عندما تيقنوا من مرضي وعجزي عن الحضور .

ويالها من ساعة رهيبة تلك التي سار المختار فيها بقدم ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتين الى حبل المشنقة ، وقد ضل المختار يردد الشهادتين أشهد ان لااله الا الله ، وأشهد ان محمد رسول الله.

لقد كان الشيخ الجليل يتهلهل وجه استبشاراً بالشهادة وارتياحاً لقضاء الله وقدره، وبمجرد وصوله الى موقع المشنقة اخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الاعدام على إنخفاض، وبصوت مدوي لمنع الاهالي من الاستماع الى عمر المختار اذا ربما يتحدث اليهم او يقول كلاماً يسمعونه وصعد حبل المشنقة في ثبات وهدوء .

وهناك اعمل فيه الجلاد حبل المظالم فصعدت روحه الطاهرة الى ربها راضية مرضية ، هذا وكان الجميع من اولئك الذين جاءوا يساقون الى هذا المشهد الرهيب ينظرون الىالسيد عمر وهو يسير الى المشنقة بخطى ثابتة، وكانت يداه مكبلتين بالحديد وعلى ثغره ابتسامة راضية، تلك الابتسامة التي كانت بمثابة التحية الأخيرة لأبناء وطنه، وقد سمعه بعض المقربين منه ومنهم ليبيون أنه صعد سلالم المشنقة وهو يؤذن بصوت هادئ آذان الصلاة وكان أحد الموظفين الليبيين من أقرب الحاضرين إليه، فسمعه عندما وضع الجلاد حبل المشنقة في عنقه يقول: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية} (سورة الفجر: آية 27،28).

لقد استجاب الله دعاء الشيخ الجليل وجعل موته في سبيل عقيدته ودينه ووطنه لقد كان يقول اللهم اجعل موتي في سبيل هذه القضية المباركة).

ويقول شاعر القطرين خليل مطران:

أبيت والسيف يعلو الرأس تسليماً

وجدت بالروح جود الحر أن ضيما

لله ياعمر المختار حكمته

في ان تلاقي مالاقيت مظلوما

ان يقتلوك فما ان عجلوا أجلا

قد كان مذ كنت مقدوراً ومحتوما

ولقد رثاه الشعراء وتكلم في تأبينه الادباء والكتاب ولو تتبعنا ذلك لوجدناها أكثر من مجلد.

ونختم استشهاد عمر المختار رحمه الله بقول الله تعالى : {وماكان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلا ومن يريد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤتها منها وسنجزي الشاكرين وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وماضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} (سورة آل عمران : آية 145).

ومن سيرة عمر المختار العطرة نستخلص دروساً وعبراً تفيدنا كثيراً في حياتنا المعاصرة ليس عمر المختار رحمه الله أول من جاهد ولا أول من استشهد ولكن كان حاله كما قال تعالى : {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} (سورة آل عمران : آية172).

ومفتاح شخصيته الفذة إنه آمن بالله واستقرت معانيه في قلبه فأصبح لايخشى إلا الله وهذا الصنف من المسلمين هو اقوى ماعرفته البشرية وهو الانسان الحر في أعلى معاني الحرية.

جرد قلبه من الاوهام ومن الشركيات والضلال ومن الشبهات والشهوات وخلص قلبه من كل ظلمة تحيل بينه وبين دخول التوحيد الصحيح إليه، كان كثير المراقبة لله، ومن هنا كان شديد الخوف من الله يعلم إنه شديد العقاب وخوفه من الله جعله اهلاً لتوفيق الله ولذلك كان راسخاً كالجبل الاشم.

فالفريد في سيرته ، إنه أحيا شيئاً كاد يندثر ، أحيا معاني الايمان التي كان الناس قد بدأوا ينصرفون عنها إنه بنيان اسس على التقوى فعاش مباركاً في حياته وفي مماته.

والعبرة الثانية ، إنه كان داعيا الى الله بإذنه ، تربى على ايدي دعاة السنوسية فلما اكتمل وترعرع ، ادى الرسالة وبلغ الامانة وأنذر وبشر، وخيركم من تعلم القرآن وعلمه.

والعبرة الاخرى، إنه كان على فهم صحيح لدينه، يأخذ كلاً لايتجزأ، فلا هو بالتدين المنحرف، ولا هو بالتدين البعيد عن جوهر الدين ، وإنما هو رجل مؤمن، يعلم ان الاسلام لايصح أن يؤخذ بعضه ويترك بعضه، وإنما عليه أن يعمل به كله.

وكان في حرارة الشباب وحيويتهم رغم شيخوخته وتلك طبيعية المقاتلين في سبيل الله، الذين يخشون الله ولايخشون أحداً غيره والعبرة الاخرى، انه لم يسع للشهرة ، لان المخلصين لايبحثون عن الشهرة وإنما يبحثون عن رضى الله سبحانه وتعالى.

ولذلك جعل الله له ذكراً في الدنيا ونسأل الله أن يتغمده برحمته في الآخرة إن اعداءه الاوروبيين اعجبتهم سيرته البطولية والكفاحية والجهادية فهذه صحيفة التايمز البريطانية في مقال نشرته في 17 سبتمبر سنة 1931م تحت عنوان نصر إيطالي: (حقق الايطاليون انتصاراً خطيراً ونجاحاً حاسماً في حملتهم على المتمردين السنوسيين في برقة، فلقد أسروا وأعدموا الرجل الرهيب عمر المختار شيخ القبيلة العنيف الضاري...) ثم تستمر الصحيفة حتى تقول: (ومن المحتمل جداً أن مصيره سيشل مقاومة بقية الثوار، والمختار الذي لم يقبل أي منحة مالية من ايطاليا، وأنفق كل ماعنده في سبيل الجهاد وعاش على ماكان يقدمه له اتباعه، واعتبر الاتفاقيات مع الكفار مجرد قصاصات ورق ، كان محل اعجاب لحماسته واخلاصه الديني ، انه كان مرموقاً لشجاعته.

وقد وصفه أحد الإيطاليين قائلاً (كان عمر المختار مخلصاً وذكياً، وكان عقل الثورة وقلبها ببرقة).

وقال آخر: كان انجازه رائعاً، فقد حارب إيطاليا الفاشستية تسع سنوات من حرب فدائية لم تكن ضعيفة في ذاتها وكان التحدي والتضحية والاستشهاد بالنفس عند عمر المختار واتباعه شيئاً نبيلاً.

ونحن نقول:

ومليحة شهدت لها ضراتها والفضل ماشهدت به الأعداء

لقد كانت حياة عمر المختار شيخ المجاهدين في الجبل الأخضر بليبيا مكرسة كلها للعلم والدعوة وتربية الناس على الإسلام والجهاد في سبيل الله وكان من رواد الحركة السنوسية فقضى حياته حين نادى منادي الجهاد معتلياً صهوة جواده ممسكاً سلاحه، لم يهادن ولم يستسلم بل قارع أعداء دينه مقارعة الند للند رغم قلة الإمكانات ورغم عدم التكافؤ في العدد والعدة ولكنه استعلاء الإيمان وقوة اليقين، الذي ازداد صلابة وعمقاً في ميادين الجهاد وساحات المعارك، إن جهاد عمر المختار رحمه الله سيظل معلماً بارزاً في تاريخ ليبيا خاصة وتاريخ الأمة الإسلامية عامة وسيظل دليلاً على أن الإسلام صنع ولايزال نماذج عظيمة من البطولات على مر العصور وعلى أن العطاء الحقيقي إنما هو عطاء الإيمان.

إن الشيخ الجليل عمر المختار رحمه الله مدرسة تستحق الدراسة والبحث في جوانب متعددة في شخصيته العلمية والدعوية والتربوية والجهادية ويعلم الله ما أعطيت الشيخ حقه ولا حتى بعض حقه وأحس إحساساً عميقاً صادقاً في قرارة نفسي إنه أعظم مما كتبت وأجل مما توهمت وأفضل من عايشت من سيرة أبطال الجهاد في ليبيا الحبيبة فعليه من الله الرحمة والمغفرة والرضوان وعلى إخوانه الميامين الكرام ونفعنا الله بسيرته الزكية العطرة النقية.

وهكذا يا أخي الكريم يصنع الإسلام من اتباعه في ميادين النزال وساحات القتال وكذلك عند الوقوف أمام الطغاة والجلاودة الظلمة، لأن العقيدة تحركه ورعاية الله تحفه وإن هذه الوقفات الخالدة من سيرة شيخ الجهاد في ليبيا لحري بنا أن نكتبها بحروف من ذهب ونعلمها للأجيال ونربي عليها الأشبال لغد مشرق مجيد قد بدأت بوادره تلوح في عنان السماء ومظاهرها متجسدة في رجوع شعوب المسلمين لدينها مع مايحف هذا الرجوع من مخاطر عديدة من قبل اليهود والنصارى والملاحدة والحكام الظلمة وأنى لهم أن يطفؤا نور الله والله متم نوره ولو كره الكافرون.

فما علينا إلا أن نستعين بالله في تحقيق وتطبيق دينه على نفوسنا وأسرنا ومن حولنا ثم على الناس أجمعين.

قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لايشركون بي شيئا} (سورة النور: آية55).

{ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (سورة الحج، آية40).

{من كان يريد العزة فالله العزة جميعاً} (سورة فاطر، آية10).

آخر وثيقة من أحمد الشريف وصلت للمجاهدين في ليبيا:

وكانت آخر وثيقة أرسلها أحمد الشريف رداً على رسالة المجاهد الكبير يوسف بورحيل الذي تولى الأمر مؤقتاً بعد استشهاد عمر المختار رحمه الله تعالى وقد أعلم في رسالته أحمد الشريف باستشهاد عمر المختار وطلب منه أن يعين من يقوم بهذا الدور العظيم.

نص الرسالة التي بعث بها أحمد الشريف رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

من عبد ربه سبحانه، خادم الإسلام، أحمد الشريف السنوسي،

إلى حضرة الفاضل المحترم، والجليل المفخم، المجاهد الصادق، واللبيب الحاذق، قائم مقام دور العواقير ولدنا الشيخ عبدالحميد العبار، وكافة أولادنا العواقير حفظهم الله ورعاهم وحرسهم وحماهم آمين آمين.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ومغفرته ومرضاته وتحياته ورضوانه وعميم فضله وإحسانه، وبعد، فالمرجو من الله تعالى أن تكونوا جميعاً على أيسر الأحوال محفوظين بالله ومنصورين به وإننا لن نغفل عنكم وقت من الأوقات من الدعاء لكم عند بيت الله الحرام وفي حضرة مولانا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعلى الله القبول، إنه أكرم مسؤول، وخير مأمول هذا وقد بلغنا ما أزعجنا وكدرنا غاية الكدر، وهو استشهاد حضرة النائب العام سيدي عمر المختار رحمه الله ورضي الله عنه وجعل جنة الفردوس مسكنه ومحله، وجزاه الله عنا وعن الإسلام أحسن الجزاء، فإنه كان عاملاً صادقاً ناصحاً، وأننا لم نتكدر على نيله للشهادة بل نحمد الله على ذلك ولانقول أنه مات، بل إنه حي لقول الله {ولاتقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا، بل أحياء} وإنما كدرنا فقدانه من بينكم وغيابه عنكم، ولكن هذا أمر الله الذي يفعل مايشاء ويحكم مايريد، فلا يمكننا إلا تسليمنا لله ورجوعنا إليه، ولانقول إلا مايقول الصابرون، إنا لله وإنا إليه راجعون، نعم استشهد سيدي عمر المختار ولكنه أبقى العمل الطيب والذكر الحسن إلى يوم القيامة فهذا ليس بميت ولن يموت أبداً، مادامت الدنيا أنه شهيد، والشهيد ليس بميت لقوله تعالى {ولاتحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما أتاهم الله من فضله ... الخ الآية} فالله يا أولادي في التمسك وإياكم واليأس إياكم والقنوط، إياكم وأقاويل الناس الفاسدة فجدوا واجتهدوا كما كنتم، واجعلوا أعمالكم لله لأنه لنا ولالغيرنا لأن من قاتل الله، فالله حي باقي، ومن قاتل لغير الله فعمله لايفيده شيئاً، واعلموا أن الله معكم، ولن يتركم أعمالكم، فاصبروا وصابروا واعلموا أن العاقبة للمتقين، وأن الله مخزي الكافرين، وماترونه من الأهوال، فإنه والله ثم والله زائل عن قريب وسترون مايسركم دنيا وأخرى، ففي الدنيا سترون بحول الله العز والنصر والفتح الذي لايخطر لكم على بال، وفي الآخرة رضاء الله ورسوله والنعيم المقيم، فأنتم في الخير أحياء وأمواتاً، وها نحن نوبنا عنا عليكم حضرة أخيكم المجاهد الغيور الصادق، ولدنا الشيخ يوسف بورحيل، فإنكم ستلقونه بعون الله وقوته، مثل السيد عمر وأكثر، ونحن ماقدمناه إلا بتقديم سيدي عمر له في حياته، وامتثلوا أمره واسمعوا كلامه، وكونوا له عوناً معيناً، ومن خالفه منكم فلا يلومن إلا نفسه، ومن تبعه وامتثل أمره، فهو الذي منا وعلينا، وولدنا الشيخ يوسف المذكور هو النائب عنا عموماً، فلا تروه إلاّ بالعين التي تروننا بها، وبذلك يتم بالله أمركم، وتجتمع كلمتكم وتقهرون عدوكم، وإياكم ثم إياكم والمخالفة والنزاع، قال الله تعالى {ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين} واعلموا يا أولادي أن العدو خيبه الله ساعي بكل جهده في القضاء عليكم في هذه المدة القريبة، لابلغه الله مناه، لأنه بعد مدة قليلة يقوم معه حرب عظيم يشغله عنكم وهو مع الفرنسيين، والدول الأخرى، فعند ذلك لايقدر على دوام القتال معكم، والحرب قريب النشوب، فجدوا في عملكم، واصبروا وأبشروا بالنصر والفتح ولاتيأسوا من روح الله، انه لاييأس من روح الله إلا القوم الكافرون قال تعالى {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ... الخ الآية} ولانشك يا أولادي أن الله منجز وعده لأن الله لايخلف الميعاد، وإني والله ثم والله مايمنعني من الوصول إليكم إلا عدم الطريق، ولكن بحول الله، لازلت مجتهداً بكل جهدي في وصولي إليكم وعن قريب يتم ذلك بحول الله وقوته، هذا وسلموا منا على عموم أولادنا المجاهدين والبارئ يحفظكم وينصركم ويجمعنا بكم عن قريب

ايطاليا تحاول ان تستفيد بعد مقتل عمر المختار:

يقول غراسياني عن عمر المختار في كتابه برقة الهادئة: إن خبر القبض على عمر المختار واعدامه سرى في كل مكان وفي الاوساط المحلية بين الأهالي والخاضعين لسلطاتنا وبين الثوار الخارجين عن طاعتنا والمهاجرين في مصر وفي كل البلدان من المشرق الى المغرب. كلها تأثرت من هذا الحادث الجلل، واعدام عمر المختار ولكي ننتهز هذه الفرصة في هذا الظرف الدقيق من أجل أثارة الفوضى بين القادة الذين خلفوا عمر المختار في القيادة رأينا ان ننشر بياناً الى كافة او البقية من العصاة نعلن لهم فيه ان الحكومة الايطالية الفاشيستية مستعدة أن تقبل استسلامهم وتسليم السلاح وتضمن لهم الحياة وفي 17 سبتمبر 1931م نشرت التعليمات الآتية من أجل توزيعها وهي :

1- أن نعطي للثوار الاحساس بسخاء الدولة الايطالية الفاشيستية وكذلك للسكان المحليين.

2- افراد الحالة أمام العالم الاسلامي وغير الاسلامي بكل دقة وان تصرفاتنا لا لبس فيها فهي من اختصاصنا وكذلك من مسؤولياتنا في كل العمليات الحربية التي أجريت في برقة ولهذا فقد قامت طائرتنا بقذف المنشورات على المناطق الجبلية وعلى المدن والقرى وبها البيان الآتي:

الى ادوار عمر المختار

إن الرئيس العظيم رئيس الثوار عمر المختار يحارب منذ عشرين سنة كان يقودكم فيها الى الخراب والدمار والتأخر والانحطاط قبضت عليه قواتنا المظفرة قوات ايطاليا الفاشيستية وقد حكمت عليه المحكمة الخاصة بالاعدام وهذا انتقام من الله من اجل المساكين الذين بسببه تركوا اراضيهم ومسقط رأسهم.

قال مترجم كتاب برقة الهادئة ابراهيم بن عامر عن هذا المنشور سبحان الله ياجنرال من الذي شرد الناس من أراضيهم؟ ومن الذي أفنى ثمانين ألف من المواطنين في المعتقلات ألم تكن أنت الذي قضى على الناس وأموالهم؟ وفي نفس الصفحة تعترف بأن عمر المختار منذ عشرين سنة يحارب من أجل من ؟ من أجل أن يطردك ويطرد قوات إيطاليا الغاصبة.

واستمر غراسياني في المنشور: ياأهل الدور إن الحكومة الايطالية الفاشيستية القوية والسخية تحذركم مرة اخرى إنه بعد وفاة واختفاء عمر المختار أنها مستعدة بأن تعفو عن كل الذين يخضعون لحكمنا ويسلمون اسلحتهم ومن غير هذا فالحكومة كما قضت على عمر المختار ستقضي على كل الذين يواصلون العصيان أما عاجلاً أو آجلاً. اسمعوا كلامي وسلموا أنفسكم وفي نفس الوقت أصدرت الأوامر الى قوات الجيش بعد أن قذفت الطائرات المنشورات بالاستمرار في القتال دون توقف بل بذل أكثر من الجهد دون تردد حتى نجعل أمام العصاة (يعني الثوار) الطريق الوحيد هو الاستسلام دون قيد او شرط وخلاف القاء البيان بالطائرات مايزيد عن 35.000 منشور وأكثر منها وزعت من الدوريات الكشافة على كل بئر وفي كل حقل ومرعى وكل هذه الاماكن التي يمر بها العصاة (يعني المجاهدون) أما (المريشال بادوليو) من جانبه وجه الى قوات الجيش البرقية التالية:

أوجه الى قوات الجيش الشجاعة ببرقة أعظم الثناء وأحر تهنئتي على كل ماقاموا به من عمل مجيد وانتصار باهر في هذه الحروب والنتيجة المرضية التي كنا نتمناها أن نهاية عمر المختار يجب أن لاتؤثر على السير فوق الطريق التي رسمناها وهي مطاردة العصاة أينما وجدوا واقتفاء أثرهم وضربهم بكل شدة ودون هوادة أو رحمة الى آخر واحد منهم وليكن شعارنا.

لاتوقف ولا ارتخاء واصلوا الزحف بكل حماس متجرد ولسوف نقضي على العصاة نهائياً.

انظروا اخواني الى هذا الحقد والبغض والكيد والمكر الذي ظهر من أفواهم وماتخفي صدورهم أكبر وصدق الله حيث قال: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا....} (سورة البقرة، آية217).

تعيين يوسف بورحيل قائد للحركة الجهادية:

وبعد سقوط عمر المختار رحمه الله في الاسر تجمع المجاهدون بين يوم وليلة واجمعوا على تنصيب الشيخ المجاهد (يوسف بورحيل) قائداً للجهاد الاسلامي ووكيلاً عاماً للجهاد وعلى أثر هذا التنصيب كلف الشيخ عبدالحميد العبار بالرحيل نحو شرق البلاد للقيام بحث الناس على الانخراط في جيش المجاهدين وحمل السلاح لمكافحة الجيوش والجهاد في سبيل العقيدة الاسلامية والدين.

واستقبل المجاهدون خبر استشهاد قائدهم العظيم بالعزيمة في الاستمرار ومواصلة للسير أما الشهادة أو النصر على النصارى الحاقدين.

وواصلت الحكومة الايطالية حملات الانتقام ضد أولئك الابطال وبرز في تلك المرحلة الحاسمة والتي ندر فيها وجود الرجال الشيوخ الفرسان والقادة الأبطال والميامين الكرام اجدادنا البواسل كل من عبدالحميد العبار ويوسف بورحيل وعصمان الشامي وحشدت ايطاليا قواتها وواصلت شن حملاتها بشراسة منقطعة النظير. وبعد قتال عنيف عند الحدود المصرية قرب الاسلاك الشائكة فاجتاز الاسلاك بعض المجاهدين ببطولة منقطعة النظير وفروسية عالية القياس وقتل من قتل واسر من اسر وبقي الزعماء الأربعة يقاومون فقتل حمد بوخيرا لله احد الزعماء وقتل يوسف بورحيل وجرح عصمان الشامي فأخذ أسيراً وأما الفارس المغوار عبدالحميد العبار فاستطاع ان يجتاز الاسلاك الشائكة بجواده رغم مطاردة القوات الايطالية له.

وبهذه النهاية المؤلمة الحزينة انكسرت شوكة المجاهدين وتعثرت خطواتهم واخمدت حركة الجهاد وذهب الاجداد تاركين خلفهم تاريخاً بطولياً كفاحياً جهادياً رائعاً من اجل العقيدة والدين والشرف والكرامة فعلى طريق الاسلام نحن سائرون ومن اجل اعزاز دين الله عاملون ورفع راية التوحيد مجاهدون ونسأل الله المغفرة والرحمة والرضوان للاجداد والابطال الكرام من أمثال رمضان السويحلي وسليمان الباروني والفضيل بوعمر واحمد الشريف السنوسي وصالح الاطيوش وابراهيم الفيل واحمد سيف النصر وسعدون وعبدالحميد العبار وغيرهم كثير.

إن عبدالحميد العبار قد امد الله في عمره وقد شاهدته مرات عديدة وأنا طفل لم اتجاوز الرابعة عشر وكنت أراه كل يوم بعد صلاة الفجر امام بيته في الحي الذي كنت أسكن فيه بمدينة بنغازي والذي يسمى مدينة الحدائق بقرب مسجد السيد بالقاسم احمد الشريف السنوسي المعروف بمسجد الأنصار وكان منظره وهو يتلو كتاب الله وقد تقدمت به السن مؤثراً في نفسي وبلادنا في تلك الفترة عمّها الفساد وماكنا نرى ونحن اطفالاً من يحافظ على تلاوة القرآن الكريم بالكيفية المذكورة وأخبرت والدي عن ذلك الذي اسر قلبي بتلاوته القرآن الكريم فقال لي يابني ذاك الشيخ عبدالحميد العبار من كبار المجاهدين وبدأت جدتي وهي من قبائل برقة من قبيلة الدرسة وقد كانت ضمن المعتقلين بمعتقل المقرون تسرد لي أموراً عجيبة عن جهاده وفروسيته وشجاعته ونجدته ولازالت صورته في ذهني الى وقت كتابتي هذه وعندما توفى رحمه الله كانت لوفاته مأتم مشهود وحضرت جموع غفيرة من شرق البلاد وغربها واستمر المأتم اياماً عديدة فرحمة الله على أولئك الأبطال.

اضطهاد الشعب:

وباستشهاد عمر المختار ويوسف بورحيل واسر عصمان الشامي بعد جرحه وهجرة عبدالحميد العبار الى مصر وقتل كثير من المجاهدين إنتهت حركة الجهاد الفعلية ومع وجود معظم السكان في معسكرات الاعتقال حكم الايطاليون البلد من الحصون المحاطة بالاسلاك الشائكة والدرويات والمصفحات والسيارات المسلحة والرشاشات والانوار الكاشفة والطائرات وفي يناير 1932م أعلن بادوليو حاكم ليبيا العسكري الايطالي أن الثورة قد انتهت كلية وتماماً واصرت ايطاليا على جعل ليبيا الشاطئ الرابع لإيطاليا. وأعلن موسليني ذلك الطبل الاجوف سنة 1934م بأن الحضارة الحقيقية هي ماتخلقها ايطاليا على الشاطئ الرابع لبحرنا، الحضارة الغربية بصفة عامة، والحضارة الفاشيستية بصفة خاصة) وأخذ الرأسماليون الايطاليون يقسمون ممتلكات الشعب المسلم على بعضهم البعض ويرحّلون الاسر الايطالية لاستيطان الكامل في ليبيا المسلمة وأصبح الليبيون عمال مستأجرين وخدام للعائلات الايطالية في مزارعهم التي نزعت من ايديهم وسلمت للايطاليين وأصدرت وسنت القوانين التي تخدم مصالح الحكومة الايطالية في مصادرة الاملاك والاستيلاء عليها ونزعها من المواطنين بمبالغ زهيدة باسم المصلحة العامة واهتمت ايطاليا بليبيا اهتماماً بالغاً من اجل جعلها قطعة ايطالية لها دورها في توسيع مستعمراتها نحو الجزائر ومالطا وجبل طارق وشجعت ايطاليا هجرة الالوف من العائلات الايطالية ضمن شروط لابد من توفرها في الراغبين بالاستيطان في ليبيا المسلمة ومن هذه الشروط: كثرة عدد افراد الاسرة بحيث تكون اكثر من سبعة ، وايضاً الصحة، والقراءة والكتابة وان تكون هذه الاسرة من اعضاء الحزب الفشيستي، او ذات الوعي السياسي، وكان معظم القادمين هم من المناطق الفقيرة في شمال ايطاليا وخرجوا من ايطاليا وسط دعاية عالمية. واستقبلوا في طرابلس وبنغازي استقبال الابطال ونقلوا في سيارات الجيش الى القرى التي كانت جاهزة لهم وكان بالبو يرافقهم من نابولي حتى القرى التي اغتصبوها من الشعب المسلم المسكين وأعطيت كل اسرة منزلاً ومزرعة جاهزة للعمل وكانت الحقول قد زرعت وفي كل اسطبل كان يوجد بقرة وبغل ، وادوات وحبوب وعلف وكذلك عربات وخشب للوقود وفي كل بيت كان هناك طعام يكفي لاسبوع، حتى الكبريت والشمع كان موجوداً جاهزاً وسخر الشعب الليبي المسلم لخدمة النصارى واستعبد النصارى الحاقدون المسلمين في حربهم لليبيا واهتموا بطرابلس ولبده وصبراته وشحات لجعلها دعاية للحكومة الايطالية ودعوة انحلالية للخمور والدعارة في حوض البحر المتوسط على مستوى عالمي وكانت اهداف الامبراطورية الفاشيستية حسب تعبير الطبل الاجوف موسليني (تغييراً اقليمياً حربياً تجارياً فحسب بل تغييراً روحياً واخلاقياً ايضاً) وعمل على إنسلاخ المسلمين من اخلاقهم ودينهم ورضوا بأن يحصر دين المسلمين في الشعائر التعبدية. وقد أعلن بالبو مرة إنه (لن يكون في ليبيا حكام ومحكومون، وبدلاً من ذلك سيكون فيها ايطاليون كاثوليك، وايطاليون مسلمون، متحدين من جماعة مشتركة كعناصر بناءة في تنظيم جبار للامبراطورية الفاشيستية) وحرموا الشعب الليبي المسلم من كل حقوقه الطبيعية فلا فرصة في التعلم والتعليم والثقافة والتثقيف ولم يكن الفاشيستيون يرون نهاية لوجودهم في بلادنا العزيزة وكانت الطبقة المثقفة الصغيرة اما في المنفى ، او لاصوت لها. وقد أخمدت كل معارضة بقسوة بالغة وأضعف البناء القبلي التقليدي بتعيين زعيم لكل عدد من القبائل والفاشيستيون يأمرون والشعب المستضعف ينفذ بدون سؤال او تعليل وكان التعليل الكافي الذي ربى عليه الشعب (يجب عليك لأنه يجب عليك أن تفعل كذا وكذا) وكانت السياسة التعليمية الايطالية رسمت من اجل تخريج عدد كبير من التلاميذ الليبيين الذين يتكلمون الايطالية ويخلصون الولاء لإيطاليا.

وعملوا على القضاء على الاخلاق الاسلامية وبث روح الكثلكة في المدارس بين الاطفال ، والقضاء على مصارف اهل البلاد والتعليم الديني واغلقوا الكتاتيب ودور العلم الوطنية وأكثروا من إقامة دور الفحش ومنعوا الليبيين من اداء فريضة الحج وازداد امتهانهم للدين الاسلامي بدرجة شنيعة فكان من اسوء فعالهم، إن القى قائد طبرق الايطالي بالمصحف الشريف الى الارض، ثم اخذ يطأ عليه بقدمه على مشهد من جماعة من المسلمين (إنكم معشر المسلمين لايمكن أن تصيروا بشراً مادام هذا الكتاب بين ايديكم).

وسخروا المسلمين واستعبدوهم في بناء الطرق والقلاع والمزارع والقرى ونشط المبشرون الطليان في دعوتهم، وعمدت الحكومة الى تشجيعهم وارغمت النساء على التنصير والزواج من الطليان.

وزاحموا أهالي البلاد في الصناعة والتجارة وسيطروا عليها سيطرة كاملة ومنعوا الناس من التظلم ، وقيدوا حرياتهم، فمنعوهم من محادثة بعضهم بعضاً، ومن قراءة الصحف والمجلات والكتب، ومن مراسلة اقاربهم في الخارج، حتى صاروا في سجن داخل بلادهم محرومين من كل صلة تربطهم بالعالم العربي والاسلامي.

لقد كان من احلام الفاشيست اعادة الامبراطورية الرومانية الغابرة فقرروا لذلك امتلاك البلدان الاسلامية القائمة على شواطئ البحر الابيض المتوسط، ثم ابادة أهل هذه البلاد وافنائهم وتحويلها الى رقعة لاتينية ، وانها لوقاحة منقطعة النظير ان يعمل شعب على ابادة شعوب ليحل محلها بالقوة ولكن هذا هو منطق الصليبيين الحاقدين وبلغ استهتارهم، أنهم ألزموا خطباء الجمعة بالدعاء على المنابر لملك ايطاليا، عم نويل الثالث، وعندئذ امتنع المسلمون عن صلاة الجمعة فلما هاج الرأي العام الاسلامي على هذا الفعل، استكتبوا الأئمة تكذيباً بتوقيعاتهم، جاء فيه ان الدعاء كان بمحض ارادتهم، ومن تلقاء أنفسهم ، ومن غير تدخل من جانب الحكومة الفاشيستية!!

فهل رأيت وقاحة ابلغ من هذه؟

وفي عهد بادوليو صاروا يمنعون الناس من اداء الحج ويضعون العراقيل في سبيلهم، حتى يجبروا على تركه.

كان اقبح مافعل المارشال بادوليو إنه امر بأن ترصف (الصالة) في قصره بالبلاط المنقوش عليه (محمد) وبعد انتهاء مرحلة الحرب المسلحة كما علمنا نفذ الشطر الثاني من برنامج إبادة الليبيين وإفنائهم، ونعني ذلك ما أغتصبه الطليان من الاراضي والمزارع وإعطائها للعائلات الفاشيستية بالقوة، وترك اصحاب الارض الحقيقين وابناء البلاد يتضورون جوعاً ويخدمون هؤلاء الحاقدين كخدماً وعبيداً.

واراد الله ان ينتقم للمجاهدين من الطليان بقدرته وجبروته وعزته وحكمته النافذة التي لا يعلمها كثير من عباده وبعد أن اطمأن النصارى الكاثوليك في ليبيا جاءت الحرب العالمية الثانية قدراً من الله وتسليطاً من الله من ظالم على ظالم {وكذلك نولى بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} (سورة الانعام، آية129).

وبعد أن اطمأنت الامبراطورية الايطالية الى سلطانها، ودانت لها الاقطار الليبية من اقصاها الى أقصاها من بعد استشهاد المختار عام 1931م حتى عام 1942م.

احد عشر عاماً من اليأس المطلق الذي لايبشر بشيء من الامل، أهل الحل والعقد الليبيين بعيدين عن البلاد.

نصف الشعب او يزيد اهلكوا، او اخرجوا من ديارهم ظلماً وعدواناً البقية الباقية مستضعفة في بلادها لا حول ولا قوة بها.

غراسياني ينفخ اوداجه، ويختال على ارض المسلمين يمنة ويسرة حيث شاء

ثم جاء من ورائه بادوليو الماريشال العجوز ليتم قصة ابادة الشعب الليبي ويسلم الاراضي الى رعاع الطليان.

ليل هنا وليل هناك وظلام دامس وظلم مخيم ويأس مرير وذلة اصابت المسلمين وعزة زائفة سيطرت على النصارى الحاقدين وكانت قصة خروج الطليان من بلادنا غريبة جداً ينبغي أن يتدبر فيها ليعلم الناس وليطمئنوا الى عدل الله المنتقم الجبار ولو بعد حين وكانت قصة هزيمة ايطاليا في ليبيا بدأت في الحرب الثانية في سبتمبر وحرصت ايطاليا أول الامر على عدم دخولها حتى اذا رأت فرنسا تنهار على أثر الزحف الالماني الخاطف عليها أعلنت ايطاليا الحرب على انكلترا وفرنسا في 10 يوليو 1940م وبدأ الجبل الاخضر يضيق حول عنق الامبراطورية الجوفاء العرجاء ودخلت ايطاليا الحرب بقيادة زعيمها موسوليني الطبل الاجوف طمعاً في الغنائم ، وكانت توقن ان الارض قد دانت لحليفتها ألمانيا فأخلف الله ظنها وافضى الامر الى زوالها نهائياً من الوجود كامبراطورية صاحبة مستعمرات واندحرت ايطاليا باندحار المانيا في شمال افريقيا، ولم تغرب شمس يوم 7 ابريل عام 1943م حتى كانت جيوش المانيا وايطاليا بقيادة رومل المنهزمة قد اخلت القطر الطرابلسي بأجمعه.

وكانت فرحة عظيمة شاملة عمت قلوب الناس وعبر عنها الملك السابق بقوله: (إني احمد الله الذي جعلني أشهد خروج هؤلاء الطليان الظالمين من بلادنا) وتدفق الليبيون الى بلادهم التي ترعوعوا فيها وأُخرجوا منها ظلماً وزوراً وهكذا استدار الزمان وسلط الله الانكليز على الطليان ونزل العار بهم .

لقد ارادت إيطاليا إبادة المسلمين في ليبيا فبادوا هم وبقي المسلمون في ليبيا واراد غرسياني إعدام المختار فهلك وبقي المختار علماً وقدوة لأجيال المسلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق