مولده ونسبه ونشأته وشيوخه
ولد الشيخ الجليل
توفي والده في رحلته إلى مكة لأداء فريضة الحج، فعهد وهو في حالة المرض إلى رفيقه السيد أحمد الغرياني (شقيق شيخ زاوية جنزور الواقعة شرق طبرق) بأن يبلغ شقيقه بأنه عهد إليه بتربية ولديه عمر ومحمد، وتولى الشيخ حسين الغرياني رعايتهما محققاً رغبة والدهما، فأدخلهما مدرسة القرآن الكريم بالزاوية، ثم الحق
لقد ذاق عمر المختار - رحمه الله - مرارة اليتم في صغره، فكان هذا من الخير الذي أصاب قلبه الملئ بالإيمان وحب الله ورسوله e حيث التجأ إلى الله القوي العزيز في أموره كلها، وظهر منه نبوغ منذ صباه مما جعل شيوخه يهتمون به في معهد الجغبوب الذي كان منارة للعلم، وملتقى للعلماء، والفقهاء والأدباء والمربين الذين كانوا يشرفون على تربية وتعليم وإعداد المتفوقين من أبناء المسلمين ليعدوهم لحمل رسالة الإسلام الخالدة، ثم يرسلوهم بعد سنين عديدة من العلم والتلقي والتربية إلى مواطن القبائل في ليبيا وافريقيا لتعليم الناس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وتعاليمه الرفيعة ومكث في معهد الجغبوب ثمانية أعوام ينهل من العلوم الشرعية المتنوعة كالفقه، والحديث والتفسير ومن أشهر شيوخه الذين تتلمذ على أيديهم، السيد الزروالي المغربي، والسيد الجواني، والعلامة فالح بن محمد بن عبدالله الظاهري المدني وغيرهم كثير، وشهدوا له بالنباهة ورجاحة العقل، ومتانة الخلق، وحب الدعوة، وكان يقوم بما عليه من واجبات عملية أسوة بزملائه الذين يؤدون أعمالاً مماثلة في ساعات معينة إلى جانب طلب العلم وكان مخلصاً في عمله متفانياً في أداء ماعليه ولم يعرف عنه زملاؤه أنه أجل عمل يومه إلى غده وهكذا اشتهر بالجدية والحزم والاستقامة والصبر، ولفتت شمائله أنظار أساتذته وزملائه وهو لم يزل يافعاً، وكان الأساتذة يبلغون الإمام محمد المهدي أخبار الطلبة وأخلاق كل واحد منهم، فأكبر السيد محمد المهدي في
وصف
كان
تلاوته للقرآن الكريم وعبادته:
كان
إن المحافظة على تلاوة القرآن والتعبد به تدل على قوة الايمان، وتعمقه في النفس، وبسبب الايمان العظيم الذي تحلى به
لقد كان هذا العبد الصالح يهتم بزاده الروحي اليومي بتلاوة القرآن الكريم، وقيام الليل واستمر معه هذا الحال حتى استشهاده.
فهذا المجاهد محمود الجهمي الذي حارب تحت قيادة
وأما الاستاذ محمد الطيب الاشهب فقد قال : (وقد عرفته معرفة طيبة وقد مكنتني هذ المصاحبة من الاحتكاك به مباشرة، فكنت أنام بخيمته والى جانبه وأهم ماكنت امقته منه رحمه الله وأنا وقت ذاك حديث السن هو أنه لايتركنا أن ننام إذ يقضي كل ليلة يتلو القرآن ويقوم مبكراً فيأمرنا بالوضوء بالرغم عما نلاقيه من شدة البرد ومتاعب السفر...).
وكأني أراه من خلف السنين وهو قائم يصلي لله رب العالمين في وديان وجبال وكهوف الجبل الأخضر وقد التف بجرده الابيض في ظلمة الليل البهيم وهو يتلو كتاب الله بصوت حزين، وتنحدر الدموع على خدوده من خشية العزيز الرحيم.
قال تعالى: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور} (سورة فاطر ، الآية ).
لقد وصى رسول الله e ابا ذر بذلك فقال: (عليك بتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء) وقد حذر الرسول الكريم من هجر القرآن فقال: (إن الذي ليس في جوفه شيء من القرآن كالبيت الخَرِبْ).
قال الشاعر:
قم في الدجى واتل الكتاب
ولا تنم إلا كنومة حائر ولهان
فلربما تأتي المنية بغتة
فتساق من فرش الى الاكفان
ياحبذا عينان في غسق الدجى
من خشية الرحمن باكيتان
اعرض عن الدنيا الدنيئة زاهداً
فالزهد عند أولى النهى زهدان
زهد عن الدنيا وزهد في الثناء
طوبى لمن أمسى له الزهدان
إن من اسباب الثبات التي تميز به
لقد كان
شجاعته وكرمه:
إن هذه الصفة الجميلة تظهر في سيرة
إن هذه الحادثة تدلنا على شجاعة
إن جواب
وهو الذي تعلم من سيرة ذي القرنين هذا المعنى الرفيع والذي لابد من وجوده في الشخصية القيادية الربانية في قوله تعالى: {هذا رحمة من ربي....} (سورة الكهف، الآية 98)، فعندما بنى السد ، ورفع الظلم ، واعان المستضعفين نسب الفضل الى ربه سبحانه وتعالى.
إن عمر المختاركان صاحب قلب موصول بالله تعالى، فلم تسكره نشوة النصر، وحلاة الغلبة بعد ما تخلص من الاسد الاسطورة وازاح الظلم وقهر التعدي بل نسب الفضل الى خالقه ولذلك أجاب سائله بقوله تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} (سورة الانفال، الآية 17) .
إن صفة الشجاعة ظهرت في شخصية
(قال بعد البسملة والتصلية على رسول الله القائل أن الجنة تحت ظلال السيوف.
الى أخينا سيدي الشارف بن أحمد الغرياني حفظه الله وهداه، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ومغفرته ومرضاته. نعلمكم أن إيطاليا إذا أرادت أن تبحث معنا في أي موضوع تعتقد أنه يهمها ويهمنا فما عليها إلا أن تتصل بصاحب الأمر ومولاه سيدي السيد
13 ربيع الثاني 1344هـ
نائب المنطقة الجبلية عمر المختار
ومحل الشاهد من هذه الرسالة قوله: (ولا نخاف طيارات العدو ومدافعه ودباباته وجنوده من الطليان والحبش والسبايس ، ولا نخاف حتى من السم الذي وضعوه في الآبار ووضعوه على الزروع النابتة في الأرض نحن من جنود الله وجنوده هم الغالبون).
إن صفة الشجاعة ملازمة لصفة الكرم، كما أن الجبن والبخل لا يفترقان ولقد حفظ لنا التاريخ عبارة جميلة كان يرددها
لقد تضافرت نصوص الكتاب والسنة بمدح الكرم والانفاق وذم البخل والامساك، قال تعالى : {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاءً بما كانوا يعملون} (سورة السجدة، آية 16).
لم تكن همة
الدعوة والجهاد قبل الاحتلال الايطالي:
تفوق
ومما تجدر الاشارة إليه أن وقوع الاختيار عليه للقيام بأمور هذه الزاوية كان مقصوداً من قبل قيادة الحركة السنوسية حيث أن هذه الزاوية كانت في ارض قبيلة العبيد التي عرفت بقوة الشكيمة، وشدة المراس، فوفقه الله في سياسة هذه القبيلة ، ونجح في قيادتها بفضل الله وبما أودع الله فيه من صفات قيادية من حكمة وعلم وحلم وصبر واخلاص.
إن الفترة التي قضاها في زاوية القصور تدلنا وتشهد لنا على أعماله الجليلة ؛ كداعية رباني يدعو الى الاسلام ونشره بالفكرة والاقناع والارشاد التوجيه، فهو قمة شامخة في هذا المجال، فهو لم يدخل مجال الدعوة والارشاد إلا بعد أن تعلم من أمور دينه الكثير، فشق طريق الدعوة بزاد علمي، وثقافة متميزة، وتفوق روحي، ورجاحة عقل، وقوة حجة ورحابة صدر، وسماحة نفس لقد كان حريصاً على تعلم العلم والعمل به وتعليمه وعندما زحف الاستعمار الفرنسي على مراكز الحركة السنوسية في تشاد، نظمت الحركة السنوسية نفسها وأعدت للجهاد عدتها، واختارت من القادة من هم أولى بهذا العمل الجليل، فكان
وبقي
وعندما أصيبت الأبل التي كانت تحمل الاثقال للمجاهدين بمرض الجرب، وكان عددها لا يقل عن أربعة آلاف بعير وكانت تلك الابل هي قوام الحياة بالنسبة للمجاهدين واهتم السيد المهدي السنوسي بشأن علاجها ووقع اختياره على
وفي عام 1906م رجع
وكانت تربطه صلات شخصية مع عدد كبير من زعماء، وأعيان القبائل في برقة، وكذلك زعماء المدن، وكان زعماء البراعصة يحبون
الشيخ
عندما اندلعت الحرب الليبية الايطالية عام 1911م كان
ويذكر الشيخ محمد الأخضر العيساوي بأنه كان قريباً من
كما أشار الشيخ محمد الأخضر الى إعجاب الضباط الأتراك به وبشجاعته وبالآراء السديدة التي تصدر عنه فكأنما هي تصدر من قائد ممتاز تخرج عن كلية عسكرية، وكان قدومه الى معسكرات المجاهدين مشجعاً وباعثاً للروح المعنوية في قوة خارقة وقد تحدثت في سيرة احمد الشريف في الجزء الثاني عن الحركة السنوسية عن حركة الجهاد في أيامها الأولى ضد ايطاليا، وكان
سفره الى مصر :
سافر في شهر مارس سنة 1923م الى مصر بصحبة علي باشا العبيدي وترك رفقائه عند بئر الغبي حتى يعود إليهم، واستطاع اجتياز الحدود المصرية وتمكن من مقابلة السيد ادريس بمصر الجديدة ، وكان
فما إن بلغ السيد ادريس مافعله
حاولت ايطاليا بواسطة عملائها بمصر الاتصال بالسيد
لقد استمرت عروض الايطاليين على
وعندما خرج السيد
لقد كان
وعندما عرض عليه أن يترك ساحة الجهاد، ويسافر الى الحج قال : (لن أذهب ولن أبرح هذه البقعة حتى يأتي رسل ربي وان ثواب الحج لايفوق ثواب دفاعنا عن الوطن والدين والعقيدة)
وقال: (كل مسلم الجهاد واجب عليه وليس منه، وليس لغرض اشخاص وإنما هو لله وحده)
إن هذه الكلمات التي كتبت بماء الذهب على صفحات تاريخنا المجيد نابعة من فهم
ومن فهمه لأحاديث رسول الله e: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)
ولقوله: (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)
إن هذه الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة، كانت المنهج العقدي والفكري الذي تربت عليها كتائب المجاهدين وقادتها الكرام الذين تربوا في احضان الحركة السنوسية.
تم الاتفاق بين الأمير ادريس وعمر
وقد حدث في أثناء وجود
ومع هذه الانتصارات إلا أن الطليان استطاعوا احتلال اماكن للمجاهدين في برقة، وزحفوا على معسكر العواقير بموقع البدين وبعد معركة شديدة كبدت الطرفين خسائر فادحة انسحب المعسكر الى اجدابية واستمر الزحف الايطالي يلاحق المجاهدين حتى اشتبك مع طلائع معسكر المغاربة في الزويتينه؛ ولم يطل الدفاع عنها حتى احتلها الطليان وواصلوا زحفهم الى اجدابية حيث احتلوها في (ابريل 1923م)
معركة بئر الغبي:
كانت عيون ايطاليا تترصد حركة
وفي أسرع مدة انجلت المعركة عن خسارة الطليان وأخذت النار تلتهم السيارات إلا واحدة فرت راجعة، وغنمنا جميع ماكان معهم من الأسلحة)
ثم استمر المجاهدون في سيرهم حتى بلغوا الجبل الاخضر ووصلوا الى زاوية القطوفية (مكان معسكر المغاربة) وقابلهم صالح الاطيوش والفضيل المهشهش، ووقف
وبعد أن تم اللقاء بين
وبدأ الجهاد الشاق والطويل واستمر متصلاً ومن غير هوداة حوالي ثمانية اعوام.
وكانت عامي 1924م، 1925م قد شاهدت مناوشات عدة ومعارك دامية، ووسع المجاهدون نشاطهم العسكري في الجبل الاخضر ولمع اسم
كان معسكر البراغيث هو مركز الرياسة العامة ومقر القائد العام
أصبح تفكير إيطاليا محصوراً في برقة التي لم يتمكن الطليان منذ زحفهم على اجدابية سنة 1923م من احتلال مواقع تذكر عدا مدينة اجدابية ولذلك اهتمت ايطاليا ببرقة وانحصرت مجهوداتها في الفترة الواقعة بين سنة 1923م وبين 1927م على معسكرات
وفي عام 1927م وقع الوكيل العام السيد رضا المهدي السنوسي في الأسر بطريق الخديعة والخيانة والغدر وسقطت مناطق برقة الحمراء والبيضاء تدريجياً.
كانت قيادة الجيش الايطالي في برقة قد بدلت وتولى أمرها لتنفيذ الخطة الجديدة التي تستهدف ضرب الحصار على حركة الجهاد في الجبل الاخضر (ميزتي) كما استبدل والي بنغازي الايطالي (مومبيلي) بخلفه الجنرال (تيروتس) وهو من زعماء الحزب الفاشيستين وزود الجنرال ميزتي بعدد كبير من الجنرالات وكبار الضباط وأركان الحرب لمساعدته وفي نفس السنة تقدمت القوات الايطالية من طرابلس بقيادة الجنرال غرسياني فاحتلت واحة الجفرة والقسم الاكبر من فزان واشتبكت قبائل المغاربة بزعامة صالح الاطيوش وقبائل اولاد سليمان بزعامة عبدالجليل سيف النصر، ودور حمد بك سيف النصر، وبعض اللاجئين الى تلك الجهات من قبائل العواقير بزعامتي عبدالسلام باشا الكزة، والشيخ سليمان رقرق، ودخلت هذه القبائل في معارك بجهات الخشة وكان الغلبة فيها للجيش الايطالي الزاحف فالتجأ المجاهدون الى منطقة الهاروج من الصحراء ومن ثم اشتركوا مع العدو في معارك عنيفة منها معركة الهاروج، ومعركة جبل السوداء، ومعركة قارة عافية وكان من بين من حضروا هذه المعركة الاخيرة السيد محمود بوقويطين أمير اللواء وقائد عام قوة دفاع برقة في زمن المملكة الليبية المتحدة، والسيد السنوسي الاشهب.
كانت القيادة الايطالية حريصة على الاستيلاء على فزان فخرجت في اواخر يناير 1928م قوتان .. احدهما من غدامس والاخرى من الجبل الاخضر، وكان الجيش بقيادة غراسياني والتحم المجاهدون مع ذلك الجيش في معركة دامية استمرت خمسة أيام بتمامها، انهزم فيها الطليان شر هزيمة فتقهقروا تاركين مالديهم من مؤن وذخائر ثم مالبث أن خرجت قوة اخرى قصدت فزان مباشرة، فعلم المجاهدون بامرها بعد خروجها بثلاث أيام وانسحبوا الى الداخل، حتى اذا وصل هذا الجيش الجديد الى مكان يقع بين جبلين يعرفان بالجبال السود انقض المجاهدون على الطليان وأرغموهم على التقهقر، فعمل قواد الحملة الى الفرار بسياراتهم تاركين وراءهم الجيش ، الذي وقع أكثره في قبضة المجاهدين، فأستأصلوهم عن آخرهم، وعندئذ لم يجد الطليان مناصا من أن يجددوا محاولتهم ، فخرجت هذه المرة قوات عظيمة من جهات متعددة غير أن الطليان ما لبثوا ان انهزموا في هذه المعارك وتركوا وراءهم غنائم وأسلابا كثيرة ، وجدد الطليان المسعى وخرجوا من الجفرة في 30 فبراير 1928م بجيش كبير وزحفوا على زله واحتلتها في 22 فبراير وواصلت القوات الايطالية سيرها واحتلت آبار تقرفت في 25 فبراير واستمرت العمليات وانتهت باحتلال مراده، واصبحت زلة وجالو، واوجله ومراده تحت سيطرتهم، ومما ساعد الطليان على احتلالهم لتلك الواحات سقوط الجغبوب قبل ذلك في ايديهم، وسياستهم الرامية لتفتيت الصف بواسطة بعض عملائهم وكان الطليان يبذلون الأموال والوعود لزعماء القبائل، لوقف القتال وقد نجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً.
كان احتلال الجغبوب ، جالو، اوجلو، وفزان وغيرها من الواحات قد جعل
وكانت القبائل تتعاون مع قائد حركة الجهاد تمده بالرجال، والمؤن والمعلومات وعلى سبيل المثال كان حامد عبدالقادر المبروك من شيوخ قبيلة المسامير يمد المختار بالمعلومات المهمة دون تأخر، ويشارك في عمليات الجهاد مع أبناء قبيلته بدون علم الطليان ويرجع من كتبت له الحياة إلى موطنه ويستشهد من يستشهد وكان زعماء القبائل التابعة للحركة السنوسية يجمعون الاعشار والزكاة ويمدون بها حركة الجهاد بالرغم من وجود الكثير منهم تحت السلطات الإيطالية، وخصوصاً من كان في المدن كبنغازي، والمرج، ودرنة، وطبرق وغيرها، وكانت وسائل مد المجاهدين بأموال الزكاة والأعشار تتم في غاية السرية وعجزت المخابرات الإيطالية عن اكتشاف اللجان الخاصة بالدعم المالي للمجاهدين، ومن وقع في أيدي السلطات الإيطالية كانت عقوبة الإعدام وكانت الغنائم تمثل مصدراً مهماً لتمويل حركة الجهاد في فترة
حاتم الطليان قد قلدتنا
منة نذكرها عاماً فعاما
أنت أهديت إلينا عدة
ولباساً وشراباً وطعاماً
وسلاحاً كان في أيديكم
ذا ملال فغدا يفري العظاما
أكثروا النزهة في أحيائنا
وربانا إنها تشفى السقاما
لست أدري بت ترعى أمة
من بني الطليان أم ترعى سواما
وقال الأستاذ أحمد كاشف ذو الفقار:
يآل رومة تطلبون أمانياً
ختالة أم تطلبون منونا
جئتم تجرون الحديد ورحتم
بحديدكم في اليم مغلولينا
ورقصتم فيه سكارى فارقصوا
في الليلة السوداء مذبوحينا
لكن استفزكم صليل سيوفكم
فلقد تبدل زفرة وأنينا
إلى أن قال:
هاتوا الذئاب إلى الليوث فخمسة
منهم أبادوا منكم خمسينا
واستجمعوا حيتانكم ونسوركم
فالصائدون هناك مرتقبون
واستكثروا الزاد الشهي فإنكم
وسلاحكم والزاد مأخوذينا
لم يبق منهم معسر أو أعزل
بعد الذي غنموه منتصرينا
واستكملوا المدد الكبير بفتية
سيقوا إلى الهيجاء هيابينا
أحسبتم بطحاء برقة حانة
لكم وغزو القيروان مجونا
وكانت كل عائلة قد أخذت على عاتقها تزويد مجاهديها بما يلزم من شؤون وملابس، ترسله شهرياً إلى الدور (المعسكر).
وكان الأمير ادريس يتحين الفرص لتزويد المجاهدين فقد ذكر الأشهب بأن قافلة وصلت للمجاهدين قادمة من مصر وكان فيها سليمان العميري (من قبيلة أولاد علي) وبو منيقر المنفى (من رفاق
1- يلتزم كل دور بتوفير التموين اللازم لأفراده، فهم بالإضافة إلى اشتراكهم في عمل واحد هم أبناء عشيرة واحدة مترابطة، ويوجد بالدور أشخاص، مكلفون بجباية الزكاة وجمع الأعشار، وهؤلاء يقومون بعملهم بناء على تكليف كتابي من
وقد عين لكل دور رئيس إدارة يشرف على تموين الدور من حيث التوزيع والتخزين والتدبير وتسلم الأموال والتبرعات التي تصل لقيادة الدور، فقد عين عمران راشد القطعاني رئيساً لإدارة دور البراعصة والدرسة وعين التواتي العرابي رئيساً لإدارة دور العبيدات والحاسة، وعين الصديق بو هزاوي مأموراً للأعشار ويتبع
2- يقوم كل دور بتعويض الشهداء من المقاتلين بآخرين من قبائلهم وهكذا لايتأثر الدور كثيراً لفقد الشهداء، فبعد كل معركة يتم حصر الشهداء وإلى أي القبائل ينتمون ثم يرسل إلى كل قبيلة العدد الذي يجب أن تعوضه عن شهدائها، وإذا لم تجد العدد المطلوب تدفع لقيادة الجهاد 1000 فرنك عن كل شهيد لكي يجند بها العدد اللازم.
3- تتبارى مجموعات القبائل في تقديم البطولات والتضحيات حتى لاتكون موضع سخرية واستهزاء أمام بقية القبائل، وكان المجاهد الليبي يغضب غضباً شديداً ويحزن إذا فاته الإشتراك في إحدى المعارك أو تخلف عنها لسبب من الأسباب، وابراهيم الفيل العريبي نموذج لهؤلاء فقد فاته أن يشارك في معركة بلال فحزن حزناً شديداً، إلا أن قادة الجهاد طمأنوه وقالوا له: إن أيام الجهاد كثيرة، وفي اليوم التالي جرت معركة البريقة فاشترك فيها وهجم بفرسه على سيارات الأعداء وصار يقاتل حتى أكرمه الله بالشهادة.
4- يسهل على كل دور توفير الحماية اللازمة لذويه عن طريق الدوريات، والرباطات التي تراقب تحركات القوات الإيطالية أو أية تحركات غير عادية لمعرفتهم بمسالك المنطقة ودروبها وأماكن المياه بها، فعندما يحل الدور بمنطقة ما يضع دورية في كل اتجاه لتراقب وضع القوات الإيطالية في تلك المنطقة وتغطى أخبار تحركاتها للمجاهدين أولاً بأول حتى يكونوا على علم باتجاه وتحركات العدو، وحين يلتقي أفراد الدورية بالأعداء يطلقون ثلاث اطلاقات وعند سماع تلك الإطلاقات يستعد الجميع لملاقاة الأعداء في الجهة التي سمع منها اطلاق الرصاص.
كما تقوم دوريات أخرى تعرف باسم (الرباط) بمراقبة الإيطاليين في مراكزهم التي يحتلونها للحصول على معلومات عن تحركاتهم عن طريق الأهالي الموجودين داخل تلك المدن، وكثيراً مايتعرض بعض هؤلاء الأهالي بسبب تعاونهم مع المجاهدين لعقوبة الإعدام، كما حدث مع
كان نظام الأدوار يقوم على أساس قبلي ويعتبر الدور وحدة عسكرية وإدارية، واجتماعية يرأسها قائمقام، وتتمثل فيه السلطة الإدارية والعسكرية يساعده قوماندان (قائد) أو أكثر حسب حجم الدور والقبائل المنضوية تحته.
وقد استخدم
وكانت الترقيات تتم على أسس ميدانية بناء على مايقدمه الشخص من أعمال وبطولات في ميادين المعارك والمواقف الدقيقة، إذ يرفع إلى
وكان هناك مجلس أعلى يرأسه المختار يتكون من: يوسف بورحيل، حسين الجويفي، الفضيل بوعمر، محمد السركسي، موسى غيضان، محمد مازق، محمد العلواني، جربوع سويكر، قطيط الحاسي، رواق درمان وفي حالة غياب
وكان لكل من الأدوار مجلس يتكون من مشائخ القبائل وأعيانها من المعروفين بالحكمة وسداد الرأي: ومهمة هذا المجلس استشارية وهو في حالة انعقاد دائم لمواجهة الطوارئ والاسهام في حل المشاكل التي قد تحدث بالدور.
معركة أم الشافتير (عقيرة الدم):
استمر المجاهدون في الجبل الأخضر يشنون الهجمات على القوات الإيطالية وحققوا انتصارات رائعة من أشهرها موقعة يوم الرحيبة بتاريخ 28 مارس 1927م جنوب شرقي المرج قرب جردس العبيد ووقعت بعد معركة الرحيبة معارك ضارية في بئر الزيتون 10 محرم 1335هـ، 10 يوليو 1927م، وراس الجلاز 13 محرم 1335هـ، 13 أكتوبر 1927م.
أراد الإيطاليون أن ينتقمون لقتلاهم في معركة الرحيبة، فشرعت تعد العدة للانتقام لقتلاها الضباط الستة وأعوانهم المرتزقة البالغ عددهم (312) في محاولة لإعادة معنوياتهم المنهارة نتيجة لتلك الهزيمة الساحقة تمّ اعداد الجيوش الجرارة، لتتخذ من الجبل الأخضر قاعدة لها على النحو التالي:
1- الجنرال مازيتي القائد العام للقوات الإيطالية قائداً لإحدى الفرق فوق الجبل الأخضر 8 يوليو من مراوة:
أربع فرق أرترية - فرقة ليبية - أربع فرق - خيالة - بطارية ارترية.
2- الكورنيل اسبيرا إنذائي: 8 يوليو من الجراري (جردس الجراري) أوجردس البراعصة أربع فرق أرترية - فرقة ليبية - بطارية ليبية - فرقة غيرنظامية.
3- الكورنيل منتاري: 8 يوليو من خولان - فرقة أرتريا- فرقة غير نظامية.
4- الماجور بولي: 9 يوليو غوط الجمل - فرقة مهما ريستا - فرقة سيارات مصفحة - نصف فرقة ليبلير - فصيلين قناصة على الدبابات.
ويضاف الى تلك الاستعدادت سلاح الطيران الذي انطلق من قواعده بالمرج ومراوه وسلنطة.
لقد كانت قوات الايطاليين ضخمة مما تدلنا على خوفهم ورهبتهم من قوات المجاهدين.
كان عدد المجاهدين مابين 1500 الى 2000 مجاهداً منهم حوالي 25% من سلاح الفرسان ويرفقهم حوالي 12 ألف جمل ومايثقل تحركاتهم من النساء والاطفال والشيوخ والأثاث علمت ايطاليا بواسطة جواسيسها بموقع المجاهدين في عقيرة ام الشفاتير فارادت أن تحكم الطوق على المجاهدين فزحفت القوات الايطالية نحو العقيرة بعد مسيرة دامت يومين كاملين واستطاعت أن تضرب حصاراً حول المجاهدين من ثلاث جهات، وبقوات جرارة تكونت من حوالي (2000) بغل و5000 جندي، 1000 جمل بالاضافة الى السيارات المصفحة والناقلة.
علم المجاهدون بذلك وأخذوا يعدون العدة لملاقاة العدو فأعدوا خطة حربية وقاموا بحفر الخنادق حول أطراف المنخفض ليستتر بها المجاهدون وخنادق اخرى لتحتمي بها الأسر من نساء وأطفال وشيوخ، وتم ترتيب المجاهدين على شكل مجموعات حسب انتمائهم القبلي ووضعت أسر كل قبيلة خلف رجالها المقاتلين، وكان قائد تلك المعركة التقي الزاهد الورع الشيخ حسين الجويفي البرعصي وكان
كان الشيخ حسين الجويفي ممن تجرد للجهاد في سبيل الله وطلب رحمة الله تعالى وكان يقول: (أنا لا أريد قيادة ولا منصباً بل أريد جهاداً رغبة في ثواب الله تعالى).
كان ذلك الصنديد محل تقدير من قبل إخوانه قال في حقه قائده الأعلى
كما عرف عنه انه لم يبرح فرسه يوماً أثناء المعركة لينال من اسلاب العدو، بل يتركها للمجاهدين لعفته وقناعته بما يملك من أموال ومواشي.
لقد أسندت إليه قيادة المعركة لمعرفته بشعاب ودروب المنطقة التي كان يسكنها مع كونه احد قادة الجهاد، وأحد المستشارين لعمر المختار، وقائمقام البراعصة والدرسة في فترة سابقة، فكان في تلك المعركة فوق جواده يجوب الميمنة والميسرة والقلب وهو عاري الرأس لايخشى الموت يوزع صناديق الذخيرة على المقاتلين تارة ويطلق عبارات التشجيع مرة أخرى، ويقوم بتحريك جبهات القتال، وتنظيم هجومات المجاهدين، وترتيب صفوفهم.
وسقط الشهداء واشتدت المعركة ، وارتفعت درجة حرارة البنادق بسبب استمرار اطلاق العيارات النارية واستعمل المجاهدون الخرق البالية لتقيهم حرارة مواسير البنادق التي لا تطيقها يد المجاهد. وكان بعض المجاهدين يملك بندقيتين يستعمل الواحد مدة ثم يتركها حتى تبرد ويتناول الاخرى، .
وخصص القائد حسين فرقة من المجاهدين للتصدي للمصفحات المهاجمة من الجنوب وعددها ثلاثون مصفحة ولعب كومندار طابور المعية المجاهد سعد العبد السوداني دوراً بارزاً وأظهر شجاعة نادرة بأن قاد تلك الفرقة المواجهة للمصفحات الايطالية وتمكن من تدمير أغلبها مع رجاله وانتزع المجاهد رمضان العبيدي العلم الايطالي من على أحد المصفحات ، وبدأ الجيش الايطالي في التقهقر ودخل الرعب نفوس ضباطه وجنوده الذين وجدوا فرصة الحياة في الهروب وبالرغم من قصف الطائرات إلا أن الايمان القوي ، واحتساب الأجر عند الله كان دافعاً مهماً لدى المجاهدين.
كانت خسائر المجاهدين في الارواح 200 شهيد من بينهم القائمقام محمد بونجوى المسماري الذي استشهد في اليوم الثالث أثر اصابته بجرح مميت، وكانت له مكانة عظيمة في نفوس المجاهدين ووالد زوجة
واستشهد كل من جبريل العوامي، وستة من قبيلة العوامة، ومحمد بو معير الدرسي والشلحي الدرسي، ومحمد الصغير البرعصي وفقد المجاهدون في تلك المعركة عدداً كبيراً من الابل والمواشي وتم حرق بعض الخيام من جراء الغارات الجوية.
ومكث المجاهدون طيلة الليل يدفنون الشهداء وينقلون الجرحى، وقبل بزوغ الفجر رحلوا عن ذلك الموقع، بهدف الاعداد والاستعداد للقاء العدو في موقع جديد من مواقع القتال واصبحت القوات الإيطالية كما يقول تيروتسي : (أصبحت الآن منهوكة القوى تخور إعياء من شدة المعارك المستمرة منذ فترة طويلة دون توقف...).
وكانت نتائج تلك المعركة فيما يلي:
1.كانت معركة ام الشفاتير بداية نقطة فاصلة في اتباع استراتيجية جديدة عند
2.لمح
3.كما سُمَحَ لأحد الاخوين بالهجرة للمحافظة على وريث لهما فيما بعد حتى يكون دائماً هناك من يطالب بحقوقه ويزعج المستعمرين الطليان، وللتعريف بالقضية الليبية بتلك البلدان ونتج عنه فيما بعد تشكيل الجاليات الليبية في الخارج.
4.أيقن الايطاليون أنه لاجدوى من الاستمرار في العمليات العسكرية ضد المجاهدين، مما كان سبباً في توقفها طلية سنة 1928م. لقد تحققت لموسليني ماقله من قبل : ( اننا لانحارب ذئاباً كما يقول غراتسياني بل نحارب أسوداً يدافعون بشجاعة عن بلادهم ..إن أمد الحرب سيكون طويلاً).
استشهاد حسين الجويفي والمختار بن محمد في معركة ابيار الزوزات 13/8/1927م :
استشهد الشيخ حسين الجويفي رئيس دور البراعصة، وكان صاحب مكانة عظيمة عند المختار، كان حسين الجويفي سباقاً للخيرات، حريصاً على الشهادة في سبيل الله، وكان يحرص على الخروج للمعارك مع مرضه حتى أن
لقد تأثر
شهير لَسَم وَافِ الدين
تمَّا غفير في فاهق خلا
لقد فقد
إن كل فرد من رفاقي المجاهدين هو عندي بمنزلة المختار. إنني فقدت مختاراً واحداً ، ولكنني أعيش بين عدداً من المختارين كل منهم يملأ مكان ابن اخي وردد قول الشاعر الشعبي:
الدنيا أمفيت الله من واليها
وين الصحابا قبلنا أو نبيها
ويــــن بــــون يـــــادم
وين الشيوخ اللي كبار مقاوم
اللّي يندهوا للعبد هو والخادم
وَنْ جاهم الطالب حاجتا يقضيها
في سبتمبر عام 1927م غزت جموع الزوية الجخرة ومرسى بريقة وجالو وأوجلة، وأنزلوا بالطليان خسائر فادحة، واشتدت مقاومة المجاهدين في الجبل الأخضر على الرغم من احتلال الطليان للواحات ومراكز السنوسية الهامة، فلم يعد هناك مناصا من أن يعيد الطليان النظر في خططهم، مما أدى إلى وقوع أزمة كبيرة في روما، وبدأت الحكومة تبحث بصورة جدية وسائل إخماد المقاومة وترسم الخطط السياسية الجديدة التي ترأى ضرورة التقيد بها في كل من برقة وطرابلس، وقد اضطر فيدرزوني وزير المستعمرات، وديبونو والي طرابلس وتيروتزي والي برقة للاستقالة في ديسمبر 1928م، فعين ديبونو وزيراً للمستعمرات وأعلن موسوليني توحيد الإدارة في القطرين الليبيين، وعين الماريشال بادوليو حاكماً على طرابلس وبرقة.
كان مجئ بادوليو إلى ليبيا بداية مرحلة الجهاد الحاسمة بالنسبة للمجاهدين وكان تاريخ تعيينه في شهر يناير من عام 1929م وكان برنامجه الجديد يتلخص في تخفيض الجيش إلى القدر الذي يكفي للقيام (بحرب العصابات) والمحافظة على على هيبة الحكومة مع انفاق الأموال المتوفرة في مد الطرق في الجبل الأخضر مما يسهل عليه التنقلات العسكرية، فإذا ما أتم له ذلك قام بهجوم شامل كاسح على المجاهدين يقضي على المقاومة نهائياً، ومن أجل ذلك سعت إيطاليا إلى مفاوضة السيد
واهتم بادوليو بكسب الرأي العام وتخويفه، فأعلن العفو عن الأفراد الذين يسلمون أنفسهم وسلاحهم مختارين للحكومة، ويتوعد كل معاند بالعقوبة الصارمة وقد اسقطت الطائرات هذا المنشور من الجو على البلدان والقرى والنواجع في أنحاء ليبيا جميعها وكان لهذا المنشور آثار مباشرة، فظن بعض زعماء ليبيا بمدينة طرابلس الضعف ووهن العزيمة في الحكومة وقام أحمد سيف النصر ومحمد بن الحاج حسن (من قبيلة المشاشة) بالزحف على منطقة القبلة لجمع البدو المحاربين وإرسالهم إلى الجبل الأخضر حتى يعززوا قوات المجاهدين في الجبل ويرغموا الحكومة على اتخاذ لهجة متواضعة عند بدء المفاوضات مع
كانت لتلك الأعمال أكبر الأثر في إقناع بادوليو بضرورة العمل فوراً من أجل استمالة المجاهدين إلى المفاوضة إذا أراد أن يضع برنامجه الواسع موضع التنفيذ فبدأ من ثم متصرف المرج الكولونيل باريلا من أوائل مارس 1929م يطلب الاجتماع بالسيد
الذهاب إلى الحجاز، أو إلى مصر، أو البقاء في برقة، فإذا رضي بالبقاء في برقة أجرت عليه الحكومة مرتباً ضخماً وعاملته بكل احترام ولكن المختار رفض هذه الشروط وكان السيد رضا يخضع لرقابة صارمة منعته من تبادل الرأي مع عمر المختار.
واستؤنفت المفاوضات في هذه المرة في مكان يسمى قندولة بالقرب من سيدي رويفع وحضر اجتماع قندولة باريلا، وكمباني وعدد من الضباط والأعيان وكان سيشلياني قد بيت النية على الإيقاع بالمختار وأسره، ولكن
وفي 26 مايو بدأت المفاوضات من جديد، فحضر المختار إلى مكان قريب من القبقب. وفي هذا الإجتماع دارت المباحثات على أساس ماجاء في منشور بادوليو فعرض دودياشي شروط الحكومة وهي (أولاً) عودة السيد إدريس، وأحمد الشريف والسيد صفي الدين وسائر أعضاء الأسرة السنوسية إلى البلاد على أن يكونوا تحت إشراف الحكومة وأن يتم رجوعهم بترخيص من الحكومة بوصفهم مهاجرين يبغون العودة إلى أوطانهم وتعهدت الحكومة بعاملتهم المعاملة اللائقة بهم على غرار ماتفعله مع السيد الرضا.
ثانياً: احترام الزوايا وأوقافها ودفع المرتبات لشيوخها.
ثالثاً: إرجاع أملاك الأسرة السنوسية.
رابعاً: إعفاء الزوايا وأملاك السنوسية من الضرائب.
خامساً: تسليم المجاهدين نصف مامعهم من أسلحة لقاء ألف ليرة إيطالية تدفع ثمناً لكل بندقية يسلمونها، وعلى أن ينضم بقية المجاهدين المسلحين إلى المنظمات التي تنشئها الحكومة تحت إشرافها وإدارتها وذلك لمدة معينة تحددها الحكومة فيما بعد في نظير أن تعد أماكن لإقامتهم يسهل على الحكومة إمدادهم فيها بالمؤن فضلا عن إحكام الرقابة عليهم.
سادساً: إبعاد كل الإخوان السنوسيين من الأدوار وتتعهد الحكومة بإعطائهم المرتبات التي تناسب مراكزهم، فاعترض
وبعد أربعة أيام فقط طلب دودياشي مقابلة المختار في قندولة (30مايو) فجاء المختار إلى نجع علي العبيدي شيخ العبيدات بالقرب من القبقب، وحضر معه السيد حسن الرضا والفضيل بو عمر وعبدالحميد العبار وحامد القماص وآخرون ومعهم حرس يتألف من مائة وخمسين فارساً وجاء من طرف الحكومة دودياشي وباريلا كما حضر هذا الاجتماع علي العبيدي وخالد الحمري ورويفع فركاش، وأظهر فيها المختار استعداده للتفاهم طالما أنه يؤدي إلى المحافظة على كرامة السنوسية. وفضلاً عن ذلك فقد أصر
وكانت الشروط التي عرضها المختار تكفل المحافظة على هوية الشعب وعقيدته ودينه ولغته، وتحفظ أوقاف الزوايا وتعطي
1- أن لاتتدخل الحكومة في أمور ديننا، وأن تكون اللغة العربية لغة رسمية معترفاً بها في دواوين الحكومة الإيطالية.
2- أن تفتح مدارس خاصة يدرس فيها التوحيد، والتفسير، والحديث، والفقه، وسائر العلوم.
3- وأن يلغى القانون الذي وضعته إيطاليا والذي ينص على عدم المساواة في الحقوق بين الوطني والإيطالي إلا إذا تجنس الأول بالجنسية الإيطالية كما كانت شروط المجاهدين تنص على إرجاع جميع الممتلكات التي اغتصبتها الحكومة من الأهالي وإعطائهم مطلق الحرية في حمل السلاح وجلبه من الخارج إذا امتنعت الحكومة عن بيع السلاح لهم، كما نصت هذه الشروط على أن يكون للأمة رئيس منها تختاره بنفسها ويكون لهذا الرئيس مجلس من كبار الأمة له حق الإشراف على مصالحها، كما يكون للقاضي الإسلامي وحده الفصل بين المسلمين وطالب
أراد المجاهدون أن يقطعوا حجة الطليان فاتفقوا على أن يحضر اجتماع بنغازي السيد الحسن رضا السنوسي، وكان
لما ذهب الحسن بن الرضا إلى بنغازي تأثر ببعض أقوال الليبيين التابعين للحكومة الإيطالية وقبل أن يوقع على شروط الصلح التي خالفت ماطلبه المجاهدون، فلما رفض
كان
النداء الأخير :
خاطب السيد
غدر وخيانة :
لقد نقضت الحكومة عهودها وغدرت بالمجاهدين وكان السيد حسن الرضا أول من ذاق مرارة غدرهم، فقد غادر المعسكر في غوط الجبل جماعة من عائلة عريف وانتهز الطليان هذه الفرصة فطلبوا من الحسن أن يتقدم بالدور إلى ناحية مراوة وأجاب الحسن رغبتهم وعندئذ سيرت الحكومة قوة كبيرة على الدور لجمع الأسلحة من أتباعه بدعوى أن رجاله قد (غزوا) بعض الأهلين في مراوة. وأبدى الحسن ورجاله معارضة شديدة، ولكن معارضتهم هذه سرعان ما أكدت للطليان - على حد قول هؤلاء - أن الدور كان مركزاً لدعاية سنوسية خطيرة، وأن حل الدور قد بات لذلك أمراً لامناص منه ولامحيد عنه، وكان مما جعل الطليان ينقلبون
تعيين الجنرال غراسياني حاكماً لبرقة ونائباً للمرشال بادوليو الحاكم العام
كان الجنرال غراسياني عند قومه معظماً ومقدماً وقد قام بأعمال عسكرية في فزان شنيعة للغاية واستطاع أن يقضي على حركة الجهاد في فزان بدخوله غات في 25 فبراير 1930م وكان نصرانياً حقوداً على الإسلام والمسلمين لم يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة.
بعد بقائه في ليبيا لمدة تسع سنوات متتالية وبعد احتلاله الغاشم لفزان، دعى إلى إيطاليا لتشريفه وتكليفه.
ذكر في مذكراته وداعه لطرابلس فقال: (وداعاً طرابلس أرض آلامي وعذابي، غير انه تبقى في روحي، وداخل نفسي ذكريات كل حجر مرتفع في جبالك، وفي صحرائك الواسعة، ولكن لن ينطفئ أبداً ألمي وعذابي من أجل افريقيا وأنت ياطرابلس.
وفي روما كانت تنتظرني الاحتفالات التي يطمع كل جندي مخلص أمين يحظى برضا وتصفيق الزعيم الدوتشي (موسليني) .. وقد نلت هذا وصفق الزعيم ومجلس الأمة الإيطالي لي في جلسة بتاريخ 21/3/1930م، هذا الاحتفاء وهذا الرضا، كان أعظم مكافأة في حياتي، فلقد جددت في نفسي حب العمل والتضحية في سبيل الواجب الكبير الذي ينتظرني في ليبيا بجسم متعب في الأعمال التي تحملها في الماضي، ولكن بالروح والقلب الحريص والحاضر للعمل.. وبعد أن استلمت التعليمات العليا سافرت على السفينة إلى برقة .. ويوم 27/3/1930م وصلت بنغازي التي غادرتها سنة 1914م خلال الحرب العالمية الأولى وكانت رتبتي ملازم أول في الجيش الإيطالي.
إن التعليمات التي صدرت عن رغبة الزعيم الدوتشي، وقسمت ونظمت من قبل صاحب السيادة دي بونو (والفريق) الماريشال بادوليو، بيتوا فيها تصميم الحكومة الفاشستية القضاء المبرم على الحركة الوطنية (الثورة) مهما كلف ذلك وبكل الطرق والوسائل لأنها القضية البرقاوية.
والتعليمات هي:
1- تصفية حقيقية لكل العلاقات بين الخاضعين وغير الخاضعين من الثوار سواء في قاعدة العلاقات الشخصية أو الأعمال والحركات التجارية.
2- إعطاء الخاضعين أمناً وحماية ولكن مراقبة لكل نشاطاتهم.
3- عزل الخاضعين عن أي تأثير سنوسي ومنع أي كائن منعاً باتاً من قبض أي مبالغ من الأعشار والزكاة.
4- مراقبة مستمرة ودقيقة في الأسواق وقفل الحدود المصرية بكل صرامة بحيث تمنع أي محاولة تموين لقوافل العدو (أي المجاهدين).
5- تنقية الأوساط المحلية التي توجد بها عناصر تدعي الوطنية ابتداءً بالمدن الكبيرة وخاصة بنغازي.
6- تعيين عناصر غير نظامية من الطرابلسيين لكي يكونوا قوة مضادة للمجاهدين وتعني بتطهير الأقليم من كل تمرد أو ثورة.
7- حركة دقيقة وخفية لكل قواتنا (الطليان) المسلحة في المنطقة لخلق جو مذبذب ضد كل (الأدوار)، والمعسكرات، والضغط عليها حتى تتكبد الخسائر وتشعر بأن قواتنا موجودة دائماً وفي كل مكان مستعدة للهجوم.
8- الاتجاه السريع للاحتلال الكامل لكل أراضي مستعمرة الكفرة.
هذا هو جزار ليبيا غرسياني الذي جاء محملاً لتنفيذ الأوامر السالفة الذكر من أسياده في روما الكاثوليكية الفاشستية الميكيافلية.
ومنذ عودة غراسياني إلى بنغازي، بدأ نائب الوالي الجديد يضع هذا البرنامج موضع التنفيذ من غير إبطاء معلناً إنه سوف : (يتبع بكل إخلاص تعاليم الدولة الفاشستية ويسير على مبادئها، لأنه وإن كان قائد من قواد الجيش وأحد الرجال العسكريين إلا أنه يدين بمبادئ فاشستية محضة ويعلن هذه الحقيقة بكل وضوح وصراحة تامة).
كان الجنرال غراسياني معروفاً بالعجرفة والطيش وبالجبروت الوهمي، وكان أول عمل قام به في الدوائر المدنية بعد وصوله هو إستبدال غالب الموظفين الإيطاليين بآخرين ممن يتمتعون بثقته عندما كان يعمل في طرابلس، كما جاء بقائد جديد للكربنير (الضابطية) هو الكولونيل كاستريوتا، وبالجنرال نازي ليكون مساعده الأول في القيادة العسكرية، واستعان بعصابة من المدنيين قد أخذوا ينفذون أهدافه الشريرة وأفكاره الشاذة بكل الوسائل ومن هذه العصابة الكمندتور موريتي (السكرتير العام) الكمندتور أجيدي متصرف لواء بنغازي، ثم بدأ زيارته للمناطق الخاضعة لنفوذ إيطاليا وكانت السلطات تجمع لاستقباله جميع الأهالي بما في ذلك النساء والأطفال والعجزة، فيخطب فيهم متوعداً ومهدداً، وكان يستفتح خطاباته الطائشة بقوله (صموا أفواهكم وافتحوا آذانكم) ليلقى الرعب في نفوس المستضعفين الذين استسلموا وخضعوا لإيطاليا وكان قد ألقى كلمة تهديدية في جموع حشدتها السلطات في موقع (البريقة) إستهلها بقوله (ما أنتم إلا مثل سيجارة موقودة من الجانبين تلتهمها النار من هنا ومن هناك حتى تصبح رماداً وهاهو ذا أنا أولع السيجارة من جانبي ويوقدها
وقال في خطاب ألقاه من شرفة قصره في بنغازي (تحت يدي وتصرفي باخرة تقف في الميناء وبأقل إشارة مني تنقل كل من أرى من الصواب نقله إلى إيطاليا وهذا أخف مانعاقب به) وفي خطاب تهديدي آخر قال: ( عندي لكم ثلاثة حالات، الباخرة الموجودة في الميناء، وأربعة أمتار فوق الأرض - مشيراً إلى أعمدة المشنقة - ورصاص بنادق جندنا - مشيراً إلى القتل رمياً بالرصاص) ، لقد قام غرسياني وحكومته بحشد المجهودات الضخمة للقضاء على
فقد قال السنيور فيتيتي وكيل وزارة الخارجية في حديث له مع سماحة مفتي فلسطين الأكبر الأستاذ محمد أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية العليا لفلسطين، وقد أورد سماحته هذا الحديث في مذكراته التي أخذت تنشرها جريدة أخبار اليوم، قال وكيل وزارة الخارجية المذكور: حقاً أن ماوقع في ليبيا سبب لنا متاعب كثيرة فعندما كانت السياسة الايطالية تتأثر في الماضي كثيراً بالسياسة البريطانية قبل عهد الفاشيست خدعتنا انكلترا وفرنسا فاستولت على أغنى وأغلى أقطار أفريقيا، وأغرتنا باقتحام ليبيا عام 1911م، فلم نجد فيها رغم الجهود المضنية والخسائر الفادحة في الأنفس والأموال غير الرصاص والرمال، ولم نجن من ذلك إلا بغض العرب ومقت المسلمين لنا.
المحكمة الطائرة:
لم يمض على وصول غراسياني سوى ايام قلائل حتى أنشاء ماعرف في تاريخ الاستعمار الايطالي الاسود باسم المحكمة الطائرة (ابريل 1930م) ، كانت تلك المحكمة تقطع البلاد على متون الطيارات وتحكم على الأهالي بالموت ومصادرة الأملاك لأقل شبهة وتمنحها للمرتزقة الفاشست وكانت تلك المحاكم تنعقد بصورة سريعة وتصدر احكامها وتنفذ في دقائق وبحضور المحكمة نفسها لتتأكد من التنفيذ قبل أن تغادر الموقع الذي انعقدت فيه لتنعقد في نفس اليوم بموقع آخر، وفتحت أبواب السجون في كل مدينة وقرية ببرقة وانتزعت الأموال من المسلمين بدون مبرر، ونصبت أعواد المشانق في كل من العقيلة، وجدابية، وبنغازي، وسلوق، والمرج، وشحات ودرنة، وعين الغزالة، وطبرق، ولأتفه شبهة وأقل فرية يصدر حكم الاعدام وينفذ في حينه شنقاً أو رمياً بالرصاص، وكان مما قتل شنقاً او رمياً بالرصاص في مدة لا تزيد عن شهرين من استلام غرسياني مقاليد الحكم في برقة؛ المشايخ بحيح الصبحي، على بويس العربي وابنه عبدربه بوموصاخ، خيرالله هليل، محمد يونس بوقادم، علي حميد ابوضفيرة، إثنان من قبيلة سعيد أشقاء حمد الرقيق، وهؤلاء من منطقة جدابية، ثم محمد الحداد وابنه بنغازي، وعبدالسلام محبوب من الاخوان السنوسين،
عزل المجاهدين ووضع القبائل في معسكرات الاعتقال الجماعية:
بدأ غراسياني ينفذ سياسة عزل الاهالي الخاضعين عن المجاهدين ، وشرع في جمع الاخوان السنوسيين من شيوخ الزوايا وأئمة المساجد ومعلمي القرآن بها مع ذويهم جميعاً، وكل من تربطه بأحد هؤلاء أية صلة، وكذلك بمشايخ وأعيان القبائل، وبكل من يربطه أي نوع من أنواع الصلات بأحد المجاهدين او المهاجرين، جيء بهذه المجموعات يساقون الى مراكز التعذيب ثم الى السجون ولم يشفع في أحدهم سن الشيخوخة الطاعنة، او الطفولة البريئة أو المرض المقعد، او الضرر الملازم، وانشئت معتقلات جديدة في بنينه والرجمة، وبرج توبليك وخصص غراسياني مواقع العقيلة والبريقة من صحراء غرب برقة البيضاء، والمقرون وسلوق في أواسط برقة الحمراء لتكون مواقع الاعتقال والنفي والتشريد والتعذيب لجميع سكان منطقتي الجبل الاخضر والبطنان بصورة جماعية، وبغير سكان هذين المنطقتين ممن تحوم حولهم أية شبهة، او تلفق ضدهم اقل فرية، وأمر بنقل قبائل هاتين المنطقتين المذكورتين الى هذه المعتقلات الخاصة بهم ثمانين ألفاً، وماهي في الحقيقة إلا مقابر يدفن فيها الاحياء وأداً ، فخصص معتقل العقيلة والبريقة لقبائل العبيدات والمنفا، والقطعان ، والشواعر، والمسامير،... ولبعض عائلات الاخوان السنوسيين بما في ذلك سكان الجغبوب، ولبعض من سكان مدينتي بنغازي ودرنه، واسند حكم هذين المعتقلين لممثلي الظلم والجبروت والوحشية الفظيعة لكل من كسوني، باريلا (غير باريلا متصرف المرج).
وخصص معتقلاً المقرون وسلوق لكل من قبائل البراعصة والدرسا والعرفا والعبيد وأتباعهم وشطر كبير من عائلات الاخوان السنوسييين الذين سبق أن أبعد غرسياني رجالاتهم الى ايطاليا أو فرقهم بين السجون المختلفة، جيء بهذه القبائل التي بلغ تعدادها الثمانين ألف نسمة يساقون زمراً الى المعتقلات المذكورة، فمنهم من جاءها عن طريق البحر حيث حشروا بالمراكب حشراً ومنهم من جاءها عن طريق البر بعد أن أتت إيطاليا على جميع المنقولات حرقاً بالنار، كما أحرقت الزراعة ومحصولاتها، وأهلكت الحيوانات فيما عدا ما استعملته للنقل، وأحيط القسم المساق عن طريق البر بجنود من الصوماليين والاريتريين ليتعقبوا كل من يتخلف عن المساقين الى حتفهم، ويرمى المتخلف بالرصاص ، وكان الرامي غير مسؤول عن عمله هذا، وأصبحت جميع مناطق الجبل والبطنان هلاكاً تلعب فيه الرياح.
لقد اراد غراسياني الانتقام من القبائل التي اثبتت الايام انها نعم العون للمجاهدين بعد الله، فجمع النواجع المنتشرة في منطقة الجبل الاخضر في أماكن احاطها بالاسلاك وحدث في تلك المعتقلات الجماعية مالم يصدقه بشر ولا خطر على بال انسان يعقل، لقد اشتدت المحنة واعتدى الايطاليون على الابدان والاموال والاعراض في تلك المعتقلات ولقد قام الباحث يوسف سالم البرغثي بدراسة متميزة سماها المعتقلات والاضرار الناجمة عن الغزو الايطالي وذكر فيها تفصيلاً محزناً، ووثائق تاريخية من أفواه من عاش تلك المرحلة العصيبة التي مربها شعبنا المظلوم
لقد وصف مراسل جريدة ألمانية زار معسكرات الموت التي جمع فيها غراسياني أكثر من 80 ألف نسمة فقال: إن الانتقادات التي يوجهها الآن الفرنسيين والانكليز الى خطة الفاشيست في برقة، موجهة في الدرجة الاولى الى التدابير التي اتخذها الجنرال غراسياني لإجلاء 80 ألف بدوي عن اراضيهم ، دون أن يرعوا حالة هؤلاء البدو الروحية، أو يلاحظوا تأثير مثل هذا القيد والحصار فيهم، ولا يجوز لأحد أن يخرج من نطاق الحصار إلا في النهار، بشرط أن يرجع الى مكانه قبل أن يخيم الظلام وكل واحد من رؤساء القبائل مسؤول عن اتباعه فرداً فرداً.
يجب أن نقول أن الحالة السيئة للغاية تفوق كل تصور ، فان معدل الاموات من الأطفال يبلغ 90% وأمراض العيون التي ينتهي اكثرها بالعمى كثيرة جداً ومنتشرة ويكاد لا ينجو احد من الامراض، أما غذاء هؤلاء المساكين، فالأحسن أن لا نتكلم عنه بالمرة، ومن الطبيعي أن نرى هؤلاء يتألمون أشد الألم، وفي الدرجة الاولى من هذه الاسلاك الشائكة ، رمز الاسر، ورغم تلاصق الخيام ، وشدة تقاربها ببعضها، فإن حصرها ضمن اسلاك شائكة ، يجب ان نعتبره من المتناقضات الغريبة التي لايتصورها العقل
إن ماارتكب في العقيلة والبريقة وغيرها من المعتقلات من جرائم جعل المناضلين في العالم يصرخون وينددون بالاستعمار الفاشيستي في ليبيا فقال عبدالرحمن عزام يصف حالة المعتقلين ويلفت الأنظار إليهم: (يبحثون عن اخبار الاندلس وكيف اجرى الاسبانيون بالمسلمين هناك ومالهم والاندلس والامور جرت في القرون الوسطى فأمام أعينهم طرابلس الغرب فليذهبوا ويشاهدوا باعينهم في هذه الايام فضائح لاتقل عما جرى بالاندلس)
وعبرّ غراسياني نفسه عن المأساة التي كانت اكبر من قلبه القاس فقال: (لقد نتج عن هذا كله ان اكثر الناس هاجرت ونزحت الى مصر وتونس والسودان تاركة وراءها اهلها وذويها...فاني حاسبت نفسي وضميري.. الامر الذي جعلني لم أنم هادئاً اكثر الليالي) ويقول مبرراً جرائمه البشعة لانستطيع انشاء حاضر جديد اذا لم نقض على الماضي القديم).
عمر المختار يغير استراتيجية الحرب:
كانت معسكرات المجاهدين قريبة من نواجع الاهالي حتى يسهل
يقول غراسياني: (بالرغم من ابعاد النواجع والسكان الخاضعين لحكمنا يستمر
وقال عنه ايضاً: (
كان
استمر غرسياني في تدابيره العسكرية، فلم يأت يوم 14 يونيو حتى كان الطليان قد استولوا على منطقة الفايدية، بأجمعها واحتلوها ونزعوا من الاهالي الخاضعين لهم 3175 بندقية ، 60.000 خرطوش.
نقل
عزم غراسياني على مد الاسلاك الشائكة في الحدود الليبية المصرية المصطنعة من قبل الاستعمار مايزيد على 300كم من البحر المتوسط الى مابعد الجغبوب وقد كلف الدولة الايطالية عشرين مليوناً فرنكاً ايطالياً. وقد حقق لهم ذلك العمل أمور عدة ذكرها غراسياني في كتابه منها:
1- قضى على الثوار.
2- قضى على التهريب وأصبح دخل الدولة الايطالية في ازدياد من ناحية الضرائب الجمركية.
3- قضى على حركة الامدادات التي كانت تأتي للثوار المجاهدين من مصر عن طريق المهاجرين
استشهاد الفضيل بوعمر:
استمرت المعارك بين الايطاليين والمجاهدين ومن اشهر تلك المعارك (كرسة) التي وقعت في يوم 20 ديسمبر وقد استشهد في هذه المعركة الساعد الايمن لعمر المختار الشيخ الجليل والمجاهد الفذ الفضيل بوعمر الذي شارك في مسيرة الجهاد منذ دخول الغزو الايطالي في 1911م وشهد له بالشجاعة والاخلاص في جهاده وقد ذكر
وفي اكتوبر 1930م تمكن الطليان من الاشتباك مع المجاهدين في معركة كبيرة عثر الطليان عقب انتهائها على (نظارات) السيد المختار، كما عثروا على جواده المعروف مجندلا في ميدان المعركة؛ فثبت لهم أن المختار مازال على قيد الحياة، وأصدر غراسياني منشوراً ضمنه هذا الحادث حاول فيه أن يقضي على (اسطورة المختار الذي لايقهر أبداً) وقال متوعداً : (لقد أخذنا اليوم نظارات المختار وغداً نأتي برأسه).
ومع شدة قبضة الاستعمار الايطالي على المدن إلا أن ذلك لم يمنع الاهالي من القيام بواجبهم المقدس ، واستطاعت المخابرات الايطالية ان تقبض على عدد من الليبيين الذين يزودون حركة الجهاد بالمؤن والمعلومات وتم اعدامهم وقد ذكر غراسياني بعض الاشخاص في كتابه فقال: وهنا اعرض بعض الاحوال الهامة لبعض الاشخاص الليبيين الذين نفذت فيهم المحكمة الخاصة حكم الاعدام في 14 يونيو 1930م عقدت المحكمة الخاصة في شحات لمحاكمة المواطن حمد بوعبد ربه الدرسي في الميدان العام، باعتباره خائناً للدولة الايطالية، لأنه كان شيخاً لبيت من بيوت قبيلته الدرسة، وكان محترماً من سلطاتنا ولكن اتضح لدى قسم المخابرات إنه يتعاون مع الثوار في امدادهم بالمؤن والسلاح، وكانت مخياماته تعتبر شبه استراحة لجنود الثوار (المجاهدين) وعدد هذه الخيام يزيد عن عشرين خيمة بمنطقة (قصر بن قدين) المكان الذي يتزود منه الثوار بالمؤن والسلاح، وقد حكم عليه بالاعدام رمياً بالرصاص في الميدان بشحات وأمام الجماهير ، وبعد اسبوع من هذا الحادث حصلت حركة انتقامية من الثوار (المجاهدين). هجموا على نفس الميدان ، وفي وضح النهار قتل فيه عدد كبير من جنودنا... وكذلك تاجر من تجار المنطقة.
وفي شهر سبتمبر 1930م اكتشفت قوة الامن بمنطقة البركة ببنغازي أن المواطن محمد الحداد احد اعيان بنغازي ومن تجارها يتعاون مع الثوار وعن طريقه تتم حركة الامدادات من المؤن والاسلحة وكان يستضيف في بيته الثوار ويمدهم بما يلزمهم وفي الوقت والحين حضرت المحكمة الخاصة وحكمت على الأب والابن بالاعدام شنقاً أمام الجماهير التي ارادت السلطات الايطالية إحضارهم خصيصاً لمشاهدة تنفيذ الحكم، وهذا مثال آخر سليمان سيد شيخ قبيلة الطرش، كان عضواً في مجلس النواب، حاملاً لوسام النجمة الايطالية للمستعمرات برتبة ضابط، وكان يرتدي برنوس الشرف الخاص بالنواب الليبيين كنا نعتمد على آرائه ولم نفكر في يوم من الايام أن يكون ضدنا حكمت عليه المحكمة بالاعدام ، لأنه كان يستغل نفوذه ويتعاون مع الثوار...ومن هذا النوع الكثير من المشاهد التي لايمكن حصرها وقد نفذ مع مجيء المحكمة الطائرة 250 حكماً بالاعدام، ونفذ فيهم الحكم في مدة وجيزة ورغم ذلك لازال الشعب الليبي يتعاون مع الثوار الى درجة الضياع التام
إن هذه الحقائق والمواقف التاريخية تشير الى فاعلية أهل المدن في جمع المعلومات والأموال والمؤن والأسلحة، وتهريبها الى قادة حركة الجهاد المبارك، وحرصهم على استمرارية جذوة الجهاد.
لقد وجد الايطاليون أنفسهم في حرب مع شعب دفع بكافة طاقاته نحو ساحات الوغى والفداء، وشارك معظم ابنائه بكافة مايملكون في حركة الجهاد المقدس.
احتلال الكفرة:
بعد ان استطاعت القوات الايطالية أن تعتقل قبائل برقة في معسكرات واسعة، واخذ غراسياني في مد الاسلاك الشائكة على طول الطريق على البحر المتوسط الى مابعد الجغبوب ليفصل برقة عن مصر وكان قد شرع في جمع قواته الضخمة من مختلف وحدات الجيش الايطالي والجيوش الملونة من المرتزقة ومن المعدات الحربية لإحتلال الكفرة.
كانت نقاط الاحتشاد هي العقيلة، ومرادة وجدابية وجالوا، وحشدت ايطاليا عدداً كبيراً من الابل استعداداً لنقل المؤن الى جانب سيارات النقل الكثيرة، هذا ماكان عن استعداد القيادة الايطالية ببرقة، أما عن القيادة الايطالية بطرابلس فقد جهزت هي الاخرى حملةمماثلة بقيادة الكونيل قالينا وكانت نقطة ارتكاز هذه الحملة واحة زلة وكانت القيادة العامة للحملة الموحدة تتمثل في شخص الجنرال رونكيتي تحت اشراف الجنرال غرسياني مباشرة وتحركت الجيوش الايطالية من طرابلس وبرقة في وقت واحد وبنظام موحد تسلك طريق الصحراء الى الكفرة، وتجمعت يوم 29 شعبان سنة 1349هـ بموقع الهواري، وهناك اشتبكت قواتهم مع المجاهدين في اولى المعارك وكانت معركة غير متكافئة، وقد اشترك قسم من الطائرات الايطالية مكون من عشرين طائرة، واستمرت المعركة ثلاثة ساعات قتل اثناؤها العدد الكثير من الايطاليين ومن المدافعين الذين ماكانوا يفكرون في صد العدوان طويلاً ولكنهم يحاولون إيقافه بعض الوقت ريثما يتمكن من يستطيع الفرار ليأخذ طريقه الى السودان أو مصر لقد قاتل المجاهدون جميعاً بشجاعة وبسالة نادرة ، فلم يكفوا عن القتال، واستشهد العشرات ووقع في أسر الطليان ثلاثة عشر فقط، وغنم الطليان مائة بندقية، واحتلوا الكفرة، وهتكوا الاعراضن وفعلوا مالم يفعله انسان.
لقد كتب غراسياني عن اهتمامه بإحتلال الكفرة، وعن الاستعدادات التي اتخذتها الحكومة الايطالية اكثر من خمسة واربعين صفحة، لقد اعترف غراسياني بقوة وشجاعة المجاهدين الذين تعرضوا لقتال الايطاليين عبر الصحراء الكبرى. قال غراسياني : لقد حملتنا خسائر فادحة وكنا حريصين على تحقيق النصر بأي ثمن لكون قوات المجاهدين غير متكافئة، رغم هذا كله كانوا اشداء اقوياء صامدين ، صابرين لايتقهقرون ابداً حتى ولو ادى ذلك لفنائهم جميعاً مؤمنين بأنهم اصحاب حق وشجاعة.
لقد اعترف العدو بهم كان زادهم التمر والشعير ومع ذلك دوخوا ايطاليا، وكان من بين القادة الذين اثخنوا في الاعداء عبدالحميد بومطاري الذي تزعم قيادة الزوية والمغاربة في تلك المرحلة في جهادها ضد ايطاليا، وصالح الاطيوش وسيف النصر الذي قال فيهم غراسياني: (لقد وصل سيف النصر، وصالح الاطيوش الى المنطقة وبصحبتهم الذين هاجروا من القطر الطرابلسي فأصبح الموضوع دقيقاً وبالاخص صالح الاطيوش فهو مكابر وشديد المراس
إن المجاهد صالح الاطيوش من المجاهدين العظام الذين ساهموا في الذود عن حياض المسلمين لقد شهد له عدوه غراسياني بشدة مراسه، فله منا الدعاء بالمغفرة والرحمة والرضوان وله ولجميع اخوانه الذين سطروا لنا صفحات من البطولة والرجولة للذود عن ديننا العظيم.
إن عائلة آل الاطيوش تعرضت لبلاء عظيم ، ولقد اعطى السنوسي الاطيوش صورة حية عن ذلك البلاء الذي كابده الفارون من جحيم الكفرة في ذلك الوقت.
إن اسرة عائلة الاطيوش أسرة مشيخة أصيلة في قبيلة المغاربة، تعد نموذجاً لما قاسته مختلف العائلات الليبية البارزة عبر فترة الكفاح الطويل ضد الايطاليين، فمن المعلوم أن الكيلاني الأطيوش، الذي عينه الوالي التركي في منصب القائمقام الكفرة سنة 1910م ، توفي في العام التالي مباشرة وهو في طريقه الى جالوا للالتحاق بقوات المقاومة التركية ضد الغزو الايطالي، وأخوه سعيد قضى نحبه خلف اسوار معتقل ايطالي في العقيلة ومن بني أخيه واحد شنقه الطليان في سرت، وعبدالله استشهد في معركة النوفلية، كما قتل في البريقة اثنان آخران هما علي واحمد عبد عبدالقادر الذي قتل في سرت سنة 1918م والآخر استشهد في معركة سرت بالقرب من اجدابية، وكذلك فقدت هذه العائلة مالايقل عن اربعة آخرين ماتوا في أثناء محاولة النجاة بأرواحهم من الكفرة.
فعندما هاجم الايطاليون الكفرة رحل صالح باشا الاطيوش بأهل بيته، وكان من بينهم السنوسي ابن أخيه، وبضعة اشخاص آخرين ، في قافلة من الابل اتجهوا بها أولاً صوب العوينات على حدود السودان، فبلغوها بعد ستة ايام، وهناك ملأو قربهم بالماء وانقسموا الى فريقين، توجه أحدهما الى الشمال نحو وادي النيل، بينما عمد الفريق الآخر الى مرقة وهي واحة صغير غير مأهولة تقع في ناحية الجنوب الشرقي بالسودان. ويبلغ طول هاتين المسافتين
إن هذه القصة الحزينة تعطينا صورة واضحة عن ماكابده الليبيون الذين استطاعوا الهروب من هجمة غراسياني الوحشية على الكفرة، وتلك الغارة الهمجية، ولقد تأثر العالم الاسلامي من الأخبار التي سمعوها من العوائل الليبية التي كتب الله لها النجاة، وقد قام الامير شكيب ارسلان بدور مشكور في توضيح تلك الاعمال، وكتب مقالات صادقة أصبحت وثائق مهمة للمؤرخ لتلك المحنة العظيمة التي مرّ بها الشعب الليبي المسلم فقد قال: (....إنهم لما احتلوا واحة الكفرة في 13 يناير من سنة 1931م استباحوا قراها ثلاث أيام فقتلوا ماصادفوه من الأهالي وكان من جملة القتلى بعض الشيوخ الاجلاء مثل محمد عمر الفضيل، والسيد حميد الفضيل، والشيخ فضيل الديفار وغيرهم ممن قتلوه صبراً غير داخل في ذلك من قتلوا من المعركة التي جرت بين الاهالي وجيش الحملة الطليانية وهم 200 شخص ثم ان الطليان انتشروا في القرى والبساتين ونهبوا كل ماوقع في ايديهم ولم يرحموا الشيوخ ولا الاطفال ولا النساء وصادفوا الشيخ مختار الغدامسي وهو شيخ فان بلغ ثلاثاً وتسعين سنة، ومن جلة علماء السنوسية فحملوه مقيداً بالحبال على جمل ونفوه من الكفرة فمات في الطريق. ثم اغتصبوا النساء في اعراضهن وقتلوا منهن كثيراً ممن دافعن الى الآخر عن اعراضهن. وكان نحو من 200 امرأة من نساء الاشراف قد فررن الى الصحراء قبل وصول الجيش الايطالي، فأرسلوا قوة في أثرهن حتى قبضوا عليهن وسحبوهن الى الكفرة حين خلا بهن ضباط الجيش الطلياني واغتصبوهن وهكذا نزلوا المعرات بسبعين اسرة شريفة من أشراف الكفرة الذين كانت الشمس تقريباً لاترى وجههن من الصون، والعفاف، وقد أشارت الصحف الطليانية الى هذه الحادثة وصرحت في باب الافتخار قائلة: (إن الجيش قبض على 200 امرأة من نساء الزعماء) وقرأنا ذلك باعيننا ولحضنا ان مقصود البلاغ العسكري الايطالي التبجح بكون حلائل زعماء الكفرة صرن الى الضباط إلا اننا انتظرنا جلاء الاخبار من الجهة الثانية حتى نعلم ماذا جرى بعد التثبت ، فمضى شهر حتى وردت الاخبار من المهاجرين الذين دخلوا حدود مصر بأن هؤلاء السيدات المقصورات الناشئات في اكرم بيوت الطهارة والصون قد قبضوا عليهن في الصحراء وصرن الى أولئك الفجرة الذين لايعرفون لصيانة العرض معنى ولايقيمون للشرف وزنا. وعلمنا أن بعض شيوخ الكفرة الذين احتجوا على هتك اعراض السيدات المذكورات قد أمر القائد بقتلهم ثم لما هج هائج العالم الاسلامي من جراء هذا الخبر واشباهه اذاعت الحكومة الايطالية تمويهاً ظاهراً زعمت فيه أن الجيش تأثر للنسوة المائتين المذكورات شفقة عليهن ولأجل أن يرجعن الى بيوتهن آمنات وغير ذلك من الاقاويل التي قصدت ايطاليا بها تخدير اعصاب المسلمين الذين بلغهم ماكان جرى بالكفرة من هذه الفضائع من هتك اعراض مخدرات المسلمين ومن استباحة الزاوية السنوسية المسماة (التاج) وأراقة الخمور فيها، ودوس المصاحف الشريفة بالاقدام هذا منظماً الى ماكن بلغهم من قبل من اجلاء 80 ألفاً من عرب الجبل الاخضر عن اوطانهم واماتتهم بالجوع والعطش، واخذ اطفالهم قهراً الى ايطاليا لأجل تنصيرهم الى ماكان بلغهم من فظائع كثيرة مثل حمل الشيخ سعد شيخ قبيلة (الفوائد) وخمسة عشر شيخاً من رفاقه بالطائرات وقذفهم بهم من الجو على مشهد من أهلهم حتى إذا وصل احدهم الى الارض وتقطع ارباً صفق الطليان طرباً ونادوا العرب قائلين (ليأت محمد هذا نبيكم البدوي الذي أمركم بالجهاد وينقذكم من أيدينا) هذه حادثة وغيره من الأمور في هذا الشأن كثيرة جرحت قلوب المسلمين، فجرت مظاهرات بالشام، وحلب ، وطرابلس الشام، وبيروت، وفلسطين ، وانعقدت اجتماعات في كل مكان للاحتجاج على أعمال إيطاليا، وأبرق المسلمون بالاحتجاجات الشديدة الى جمعية الامم بجنيف والى نفس موسيلني بالعبارات القاسية وقامت قيامة الجرائد العربية وحملت على توحش الفاشيت من كل جانب وامتلأت جرائد مصر بالاحتجاج والطعن في ايطاليا الى أن عطلتها الحكومة المصرية اجابة لطلب الحكومة الايطالية ووصل الصريخ الى الهند والجاوى وأضج المسلمون لهذه الاخبار وانعقد في الجاوى اجتماع كبير حضره ألوف مؤلفة من المسلمين وخطبوا خطباً شديدة ودعوا الى مقاطعة البضائع الايطالية ، وتدخلت الحكومة الهندية في الأمر وانتصرت لايطاليا بمقتضى قاعدة التكامل الاوروبي بوجه المسلمين ، وقاعدة التكافل الاستعماري بوجه الامم المقهورة واشاع قناصل ايطاليا ان كل هذه الاخبار عمّا حل بمسلمي طرابلس ملفقة لا أصل لها وبلغت بهم الوقاحة أنهم كانوا يخاطرون الناس مخاطرة على أن يذهبوا الى طرابلس بأنفسهم ليشهدوا كذب هذه الاقاويل وبلغ بهم البهتان أنهم اشاعوا ايضاً أن ايطاليا اقترحت على جمعية الامم ان ترسل الى طرابلس لجنة من عندهم للتحقيق عما ينسب الى رجالها من الأعمال الشنيعة التي هم أبرياء منها، وكل هذا اختلاق محض قصدت به ايطاليا التمويه وتخدير الاعصاب وصرف المسلمين عن مقاطعة بضائعها، وقد سكن كثير من المسلمين الى هذه التكذيبات وهدأ بالهم والحق خلاف ذلك، وكل ماشاع من الاخبار عن اعمال الطليان لاسيما بعد مجيء دول الفاشيست هو دون الواقع، ولو تأمل المسلمون فيما يأتيه الفاشيست في نفس ايطاليا من الموبقات ومن اغتيال اعدائهم السياسيين ، ومن حجر كل حرية ومن منع تأليف كل حزب يخالف حزبهم وأمام هذا الانتقام الرهيب من المسلمين في قتلهم وتغريبهم عن ديارهم، فلا تسأل ، فقد أصبحت في حكم المتواتر الذي لايصح فيه المراء بالاتفاق عشرات الالوف من الاهلين على روايته فقد نزح عن طرابلس وبرقة نحو من مائتي ألف نسمة وقيل من 300 الف نسمة منهم 20 ألف دخلوا تونس والجزائر، ومنهم 60 الفاً دخلوا مصر، ومنهم من شردوا الى السودان، ومنهم من تفرقوا في الصحارى وقد اطبقوا بأجمعهم على صحة هذه الاخبار ومشاهدتهم تلك الافعال بالعيان، وانه ليستحيل اتفاق الألوف المؤلفة على الكذب هذا فضلاً كون هذه المظالم حقيقة راهنة ماكان هذا العدد الكبير من الاهالي يترك وطنه ويهيم على وجهه في البراري او يلتمس الرزق عاملاً في أرض غيره بعد ان كان سيداً في أرضه، ومن أغرب المتناقضات والتناقض من عادة كل كاذب، أنه بينما ممثلوا ايطاليا في بلاد الاسلام يذيعون أن من شاء أن يذهب الى طرابلس بنفسه ليتحقق من كذب تلك الاخبار عن فظائع الطليان فيها فإن ابواب طرابلس مفتوحة لمن شاء الذهاب الى هناك وبينما قنصلهم في بيروت يشيع ذلك في بيروت، وبينما الحكومة الايطالية تقول هذا القول لشوكت علي الزعيم المسلم الهندي أذا بقيت ايطاليا مدة طويلة بعد احتلال الكفرة وحوادثها المؤلمة تمنع كل دخول وخروج بين الحدود المصرية والحدود البرقاوية لئلا يقف اهل مصر على الحقائق والاخبار فيزدادوا هياجاً. ولكن الحقائق لابد أن تظهر ولايمكن ايطاليا اخفاء كل ماتأتيه من الاعمال الوحشية في طرابلس وليس المسلمون وحدهم هم الذين شاهدوا أعمال الطليان وضجوا منها بل ثمة كثير من الافرنج شاهدوها وأنكروها
لقد قام الامير شكيب ارسلان بدور مشكور في الدفاع عن الليبيين واظهار وحشية الايطاليين ، ولقد كتب في صحف ذلك الزمان مقالات حزينة، بيّن فيها الاعمال الوحشية التي قام بها الايطاليون ضد الشعب الليبي المظلوم وهذه وثيقة اخرى تاريخية لمقال كتبه الامير شكيب في مجلة الدولة العربية ولقد انتشر هذا المقال شرقاً وغرباً ونص هذا المقال:
دور الصحافة الاسلامية:
كانت الحركة الاسلامية تائهة عن كل مايحدث في طرابلس من تعذيب وهمجية من البرابرة الايطاليين الذين ماأتوا الى هذه الأرض إلا ليؤخروها عن التقدم والمدنية، بعكس ماكانوا يقولون ويكتبون .. نعم ان الناس علمت بأن الحكومة ايطاليا الفاشيستية نقلت مايزيد عن 80 ألف عربي من الجبل الاخضر ووضعتهم في الصحراء (سرت) ... نزعت منهم اراضيهم بحجة التعمير وان المعمرمين الايطاليين هم احق من أي أحد آخر، لانهم يتقنون هذا العمل أكثر وأحسن من العرب.
إن العالم علم بأن الجيش الايطالي احتل الكفرة وواحاتها بعد قتل السكان العزل والثوار الذين دافعوا عن وطنهم الى النهاية، وان الصحافة الايطالية تتبجح وتنشر بأن جيشها اسر مائة امرأة وهن زوجات الشيوخ هناك.
وفي مجلتنا (الدولة العربية) وجهنا سؤالنا الى الايطاليين الفاشستيين عن معنى هذا التبجح باسر مائة امرأة.
مع العلم بان التقاليد والعادات العالمية وبالاخص البيئة العربية التي تنفي اضطهاد المرأة أو النساء خصوصاً اثناء قيام الحرب. ولكن ماكنا نعتقد أن دولة تعتبر نفسها من دول البحر الابيض المتوسط مهد الحضارة الاوروبية ان تصل الى هذه الدرجة من الانحراف والخروج عن جادة التمدن والرقي. لم يسبق في تاريخ البشرية بل في تاريخ البربرية ، أن معاملة الجيش الايطالي الفاشيستي للنساء هي معاملة وحشية بدرجة تتقزز منها النفوس، فهي معاملة سيئة سواء في طرابلس أو في برقة.
ان هذه الاخبار لم تكن نسيجاً من خيال اوفكرة طارئة وانما هي حقائق يرويها من اسعده الحظ بالنجاة من المذابح التي قام بها الجيش الايطالي الفاشيستي.
شرحوا لنا مايلي:
1- عندما اتجهت القوات الايطالية لاحتلال الكفرة كانت معززة بالطائرات التي تلقي قنابلها على السكان العزل من شيوخ ونساء واطفال وخلاف هذا سمحوا لجنودهم ان يعبثوا بالسكان لمدة ثلاثة أيام مطلقي الايادي في البيوت والأسواق والمساجد وفي كل النواحي تصرفات وحشية لم تخطر علىبال احد نهبوا وقتلوا واحرقوا كل مامروا به ولم يتركوا أي جريمة تخطر ببالهم إلا وارتكبوها، قتلوا العلماء والمشائخ، هتكوا حرمات البيوت وبقروا بطون النساء وان عدد العائلات التي قضي عليها عند احتلال الكفرة يزيد عن 70 عائلة من علية القوم، وعلاوة على هذا فقد اتخذوا زاوية السنوسي (التاج) كحانة شربوا فيها الخمر حتى ثمالة الجنون وشربوا نخب القضاء على المسلمين واحتلال طرابلس وبرقة .. ألقوا بالمصاحف القرآنية في الاصطبلات تحت سنابك الخيل وبالكتب العلمية اوقدوا بها النار تحت قدورهم لطهي طعامهم. وقد استشهد من الثوار في احتلال الكفرة مايزيد عن (200) شهيد من بينهم المشايخ الآتية أسماؤهم:
الشيخ صالح العبادية، الحاج سليمان بومطاوي، الشيخ غيث بوقنديل ، الشيخ سليمان الشريف، الشيخ محمد يونس، الشيخ احمد بو اشناك وحفيده الشيخ عمر، الشيخ حمد الحامي ، الشيخ عبدالسلام بوسريويل، الشيخ محمد المسحوق وحفيده على بن حسين ، الشيخ محمد العربي، الشيخ محمد بوسجادة الشيخ محمد الفايدي الجلولي ، الشيخ خليفة الدلال. أما الرواية الثانية هي كيف تم احتلال الكفرة من اولئك الغاشمين المتوحشين من مشاهدين حقيقيين لتلك الاحداث، قبل دخول الايطاليين الى الكفرة قامت طائراتهم بقصف واحات الكفرة بقنابلهم الفتاكة فوق السكان العزل حيث قتل عدد كبير من النساء والشيوخ والاطفال ، وبعد أن دخلوا الكفرة اطلقوا أيدي جنودهم لمدة ثلاثة أيام للعبث والتخريب في الكفرة فقد اطلقوا بغالهم وخيولهم حيث دوت كل المزروعات فاستولوا على كل المواد الغذائية وقطعان الاغنام والبقر لتموين جنودهم المحتلين دون مقابل وعلاوة على هذا نهبوا اثاث السكان وقسموها على ادارات الجيش الزاحف كذلك ملابس النساء وحليها، هذا قليل من كثير زد على ذلك اعتداءاتهم على حرمات الناس العزل دون وازع من ضمير، وعندما اتجه بعض المشايخ الى قائد الحملة راجين منه اصدار امره الى الجنود بالكف عن هذه الاعتداءات على الناس كان مصيرهم القتل رمياً بالرصاص باعتبارهم خونة، وبالاختصار ان الايطاليين عندما احتلوا الكفرة قاموا بأعمال وحشية لم يسبق ان حدثت في التاريخ حتى في القرون الوسطى عهد الهمجية.
ان قضية الـ 80.000 عربي الذين نقلتهم القوات الغاشمة من اراضيهم الخصبة في الجبل الاخضر الى مناطق جدبة صحرواية لا ماء فيها ولا كلأ، هي منطقة (سرت) كي تموت المواشي جوعاً، وعطشاً . أما البقية فقد استولى عليها الجنود الايطاليون واصبحوا فقراء تدفع لهم الحكومة الايطالية فرنكين عن كل يوم لكل شخص مهما كان عدد عائلته. اما بالنسبة لحلي النساء وملابسها فقد نهبها الجنود الايطاليون، واصبحت العائلات في هوة الفقر سواسية. وفي اثناء مرافقة هذا العدد الضخم من رجال ونساء وأطفال، كان الجنود يسومونهم سوء العذاب وكل من يعجز عن المسير مصيره الموت فيقتلونه ويتركونه يتخبط في دمه.
ان الرجال والشبان الذين تترواح اعمارهم من 15 الى 40 سنة اجبروا على الانخراط في قوات الجيش. واما الصغار الذين تترواح اعمارهم من 14 سنة فقد اخذوا بالقوة من أهليهم وارسلوا الى ايطاليابحجة تعليمهم، ولكن في الحقيقة من اجل تنصيرهم.
وهذا ماكان يتحدث به سكان (روما) وهو تنصير الليبيين بصورة عامة والطرابلسيين بصورة خاصة. ورغبة الايطاليين الفاشستيين هي القضاء المبرم على العنصر الاسلامي في ليبيا، فاذا ليبيا تصير ايطالية وبجوارها مصر، سوف تتعرض الى أكبر خطر. وان مصر لن تسكت عن هذا الاجراء لان الايطاليين في اعتقادهم المريض ان مصر ليست دولة عربية، وانما هي خليط من عدة اجناس.. الأمر الذي يجعل ايطاليا تحكم بأن تغزو مصر وتتمكن من اراضها وشعبها كما تمكنت من طرابلس . ان الوعود المعسولة التي كانت تصرح بها السلطات الايطالية. وتمنياتها الطيبة التي كانت تعرضها على الشعب الليبي وانها -يعني ايطاليا- ما أتت إلا لتخلص الشعب الليبي من الاستبداد التركي. ولأجل ان تذر الرماد في أعين الناس، أتت بادريس وقلدته لقب الامارة ووعدته بالحكم الذاتي، ولكن كانت دائماً وعوداً فقط. وهاهي ايطاليا تلغي كل شيء وتبدأ في سفك الدماء وتطرد السكان من اراضيهم وأموالهم وأخذت اولادهم وبناتهم الى ايطاليا من أجل تعليمهم، وفي الواقع من أجل تنصيرهم.. اني اقل على المسلمين ان يتذكروا هذه كله وان يتفهموه ..فان هناك من يتفلسف ويتشدق بالقول بأن في اوروبا تسود العدالة والحرية، وان الدول الاوروبية لا تتعرض للقضايا الدينية، وان السبب في سقوط المسلمين هو التعصب الاعمى: ان هذه الالفاظ وهذه المغالطات تنذر المسلمين جميعاً بأنهم إذا لم يتحدوا ويذودوا عن حياضهم سوف يتعرضون الى القضاء ويفقدون قواتهم المسلحة وحرياتهم السياسية، سوف يحدث لهم كما حدث لطرابلس إذا لم يحافظوا على حريتهم واستقلالهم ان موقف ايطاليا من حضارة القرن العشرين موقف غير مشرف فقد رجعت الى معاملات القرون الوسطى.
ان الايطاليين المتوحشين لم يتحرجوا لا كبيراً ولا صغيراً فقد اعتدوا على الحريات اغتصبوا النساء وهتكوا الاعراض. كل هذه الاعمال من أجل اضطهاد المسلمين وروحهم الانتقامية.
لقد زجّ الايطاليون في السجون الكثير من الاهالي ومشايخ القبائل وقد عارضهم وندد بأعمالهم الشيخ سعد الفايدي شيخ قبيلة الفوايد فما كان منهم إلا أن قتلوه ومعه 15 من ابناء قبيلته البعض منهم ألقي من الطائرة من علو
إن الصحفي الدانماركي الشهير (كنود هولمبوي) الذي اعتنق الاسلام وقام بجولة سياحية أثناء هذه الفترة في ليبيا، قد شاهد بنفسه وعينيه كل التعذيب والاضطهاد الذي يقوم به الجنود الايطاليون الفاشيست يقول:
شاهدت 20 عربياً مسلسلين .. شنقهم الجنود بأمر من ضابطهم دون محاكمة ولم تكن هناك محكمة.. هذا المنظر البشع أثر في نفسي ولم يكن في اعتقاده ان دول مثل ايطاليا الفاشستية وهي احدى دول البحر الابيض المتوسط تقوم بمثل هذه القسوة وهذه الوحشية. إنها جرائم سيسجلها التاريخ في صفحة سوداء ، وسيبقى وصمة عار في جبين الدولة الايطالية على مدى الدهر والازمان.
إن ايطاليا ارادت ان تحذو حذو فرنسا في تنصير المسلمين إبان حكمها في المغرب فقد عملت ووزعت المبشرين في طول البلاد وعرضها وبنت العديد من المعابد والكنائس في كل المدن والقرى لتقضي
ان سياسة ايطاليا الفاشستية هي القضاء
منذ أيام قرأت بالجريدة الرسمية المرسوم الملكي القاضي بمصادرة أملاك المواطنين وأوقاف المسلمين والزوايا السنوسية وأوقافها. وبهذه الطريقة الجهنمية عملت ايطاليا الفاشستية على تملك الايطاليين كل الممتلكات الليبية وبالتدريج وابعاد الليبيين من كل المجالات حتى تصبح ليبيا خالية من كل العناصر ولا يبقى بها إلا الايطالي المسيحي الكاثوليكي.
إذ الكلام الصادر من الجنرال او المارشال لم يكن إلا ذوداً وبهتاناً وتضليلاً لتهدئة المسلمين ؟ حتى تستطيع السلطات الايطالية الفاشستية تنفيذ أغراضها الاستعمارية. وهي ان استحوذت على الملايين من هكتارات الاراضي الزراعية وغيرها (من أين لها هذه الاراضي) فالجواب معروف. استحوذت عليها بطرد أهلها الحقيقين ونقلهم الى المناطق الهلاك هم ومواشيهم على السواء امام أعين العالم المتمدن.
وأمام عصبة الامم. وبالاختصار تبجح الايطاليون بقولهم ان طرابلس وبرقة كانتا رومانيتين .. فلابد أن ترجعا رومانيتين كما كانتا - هذا هو هدف الفاشيست بدون تردد.
إننا لانصدق مايقولون لقد خالفوا القواعد الدولية والانسانية، ولم ينفذوا حرفاً واحداً من تعهداتهم الى الطرابلسيين والبرقاويين، حتى التعهدات الكتابية والاتفاقات المبرمة بينهم وبين ادريس السنوسي، فكانت عبارة عن اكاذيب وكسب للوقت. نحن مقتنعون بأن كل ماكتبناه وأعلناه على الملأ أجمع ستكذبه السلطات الفاشيستية، وستوجد لنا مضابط لكي تدحض أقوالنا ولكن كل ماكتبناه ثابت وصحيح ومصدره من جهة عاصرت الاحداث وهي هيئة التحرير الليبية في دمشق فقد أثبتت الحوادث والاعتداءات بالوثائق الرسمية، وبالاخص في احتلال الكفرة فقد ارتكب الجنود الايطاليون الفاشيست أبشع الجرائم باعتداءاتهم على النساء وقتلهم الشيوخ والاطفال. واعتدوا على حرمات المساجد والمقدسات. وقد ادعت ايطاليا بأن كل الاعمال العسكرية التي قامت بها ماهي إلا تأديب لاناس أعلنوا العصيان على دولتهم، وهذه حجة واهية لايقبلها العقل ولا تقوم بها دولة متمدنة كما تدعيه ايطاليا الفاشيستية. وان الثوار في العرف الدولي لم يكونوا من العصاة على الدولة وإنما هم أصحاب حق يدافعون عنه ، اغتصبه عدو دخيل.
بقي علي أن اختتم مقالي هذا الذي كتبته لا أريد منه تحريض المسلمين على أن ينتقموا من الايطاليين الذين يعيشون معهم حاشا لله نحن لسنا من الانتقاميين ولا في الجهل مثل الايطاليين الفاشيست وليس من شيم أخلاقنا أن نستعمل القوة على من هو أضعف منا.
وان المسلمين لن يغيروا أبداً تراثهم الخلقي الذي ورثوه أباً عن جد. ولكني أقترح ماهو آت:
1- جمعية الشبان المسلمين في كل بلد عليها أن تحتج على كل أساليب الاعتداء والاجرام التي ارتكبتها ايطاليا الفاشيستية في ليبيا. وان ترسل برقية احتجاج شديدة اللهجة الى عصبة الامم وتنشر على الصحف العالمية.
2- كل المدن والمقاطعات الاسلامية التي تتقد حماساً والدم الساخن الذي يجري في عروقهم، عليهم أن يقدموا احتجاجاتهم الى عصبة الامم برقياً مستعجلاً ونشرها جميعاً على صفحات مجلاتهم وجرائدهم المحلية .
3- ان مجموعة الدول الشرقية بالقاهرة هي كذلك عليها ان تحتج وتندد بأعمال القمع والعنف التي تقوم بها ايطاليا الفاشيستية وتقدمه الى عصبة الامم مثل الهيئات الاخرى.
4- كل الهيئات الاسلامية والعربية والشرقية بالقاهرة وسوريا والعراق والعربية السعودية والهند وجاوا وغيرها لابد وان يقوموا بواجبهم نحو القضية الليبية.
5- عقد اجتماعات شعبية في المدن الاسلامية وإلقاء الخطب الحماسية لشرح ظلم واستبداد السلطات الايطالية الفاشيستية وهتافات بسقوط العدو الغاصب.
6- يجب على كل المسلمين أن يقاطعوا كل البضائع الايطالية والسفن وكل الوسائل والاعمال وكل شيء يحمل اسم ايطاليا، وقطع كل العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وكذلك تكوين لجان شعبية خاصة بمراقبة البضائع الايطالية.
7- طبع المنشورات وكتيبات تبين فيها تصرفات ايطاليا الفاشيستية واضطهادها للشعب الليبي، ويكون طبعها كذلك باللغة الانكليزية والفرنسية والالمانية والايطالية ويكون توزيعها بالآلاف في اوروبا وفي كل العالم ومن واجب كل مسلم ان يقوم بالصاق هذه المنشورات في كل الشوارع والميادين، وتوزيع الكتيبات في كل مكان من العالم. كذلك على كل مسلم أن يعلق في بيته بعضاً من هذه المنشورات حتى لاينسى مايعانيه الشعب الليبي من اضطهاد وتعذيب.
أيها المسلمون:
لا تقولوا بأن هذا الحديث في طرابلس وليبيا فقط وإنما الليبيون الشرفاء طعنوا في شرفهم.. في دمائهم.. في دينهم وفي أموالهم وممتلكاتهم وكذلك سيحدث لكم أنتم مثل هذه المأساة وسيحل بكم العذاب كما حل بالليبيين الشرفاء إذا لم تدافعوا عن أنفسكم ، إذا لم تبينوا أنفسكم أنكم أحياء.
أيها المسلمون:
في الوقت الحالي لن تستطيعوا الدفاع عن انفسكم وبسلاحكم فقط بل سخروا أقلامكم وكذلك باحتهادكم وبصبركم على المكائد، لتدافعوا عن كيانكم وعن ارضكم وعن مقدساتكم وتثبتوا للعالم بأنكم شعب يعرف كيف يقاوم .
قال شكيب ارسلان ولما حررت المقالة التي نشرتها عن فجائع طرابلس وبرقة سنة 1931م على أثر دخول الطليان الى الكفرة وارتجف لها العالم الاسلامي غضباً وعلا الصراخ من كل جهة جاءني من الشيهد الاكبر بطل الجبل الاخضر السيد
رسالة من
كانت تلك الجهود التي قام بها الأمير شكيب أرسلان وصلت أخبارها للمجاهدين، فأرسل قائد حركة الجهاد رسالة شكر واحترام وتقدير لتلك الأعمال وهذا نص الرسالة (إنه من خادم المسلمين
وقد علق شكيب أرسلان على تلك الرسالة فقال: ومالاحظه الشهيد المشار إليه هو عين الحقيقة فإن الناس يصعب عليهم أن يصدقوا الشناعات والدناءات والنذالات التي أقدم عليها الطليان في طرابلس ولاسيما الفاشيست منهم
إن رسالة
سياسة التهجير:
لقد شهدت مصر مشهداً لاتستطيع الإنسانية أن تعرض عنه متجاهلة ما انطوى عليه من الآلام وذلك أن مئات من بني الإنسان بين رجال ونساء وأطفال وشيوخ اضطروا تحت ضغط الجور إلى أن يتركوا أوطانهم تخلصاً من الظلم، وأن يهيموا على وجوههم في القفار، ولولا مروءة مأجور الواحات المصري الذي خرج هو ورجاله للبحث عنهم حتى لقيهم وأنقذهم لهلكوا عطشاً وجوعاً أولئك هم فريق من إخواننا الطرابلسيين الذين خرجوا من قسوة الحكم الإيطالي الذي لايطاق.
سياسة القتل والرمي في البحر:
ولم تكد أعيننا تكفكف الدموع على هذا المشهد الذي شهدته على اليابسة حتى حملت إلينا أمواج البحر في السلوم مشهداً آخر أفظع من هذا وأشنع، فرمى البحر إلى هذا الساحل المصري أربع عشرة جثة من جثث هؤلاء الطرابلسيين مغلولة في سلسلة واحدة.
عمل الإيطاليين في الكفرة:
ثم توالت الأخبار بأن زاوية الكفرة المنقطع أهلها للعبادة قد أمطرتها طائرات الإيطاليين بالقنابل وفتكت بأهلها فتكاً ذريعاً، وبعد ذلك هاجمها الجيش، وكاد يأتي على البقية من أهلها ولم يتعفف عن هتك الأعراض وسلب الأموال وبقر بطون الحوامل.
قتلهم لأهل العلم:
وقد قتل من أهل الكفرة في هذه النازلة كثيرون منهم الشيخ أبو شنة، وابن أخيه الشيخ عمر والشيخ حامد الهامة، والشيخ عبدالسلام أبو سريويل، والشيخ محمد المنشوف، وابن أخيه على بن حسين، والشيخ محمد العربي، والشيخ محمد أبو سجادة، والشيخ أحمد الفاندي الجلولي، والشيخ خليفة الدلاية.
قتلهم لكبار شيوخ الكفرة:
ولما ذهب كبار شيوخ زاوية الكفرة إلى القائد الكبير يرجونه وضع حد لهذه المذابح أمر بذبحهم فذبحوا أمامه كما تذبح الشياه.
قتل الأبرياء برميهم من الطائرات:
ومن الفظائع التي ارتكبها الإيطاليون في برقة، ونقلها الرواة الصادقون أنهم وضعوا أحد مشايخ عائلة الفوائد المدعو الشيخ سعد وخمسة عشر شخصاً من العرب في الطائرات وارتفعوا بهم عن سطح الأرض ثم جعلوا يلقونهم واحد بعد الآخر ليموتوا موتة لم يسبق لها مثيل.
انتزاع الأراضي من أهاليها وتجويعهم:
ومن الفظائع التي ارتكبوها في الجبل الأخضر إخراج أهله منه وهم لايقل عددهم عن ثمانين ألف عربي إلى بادية سرت القاحلة، ثم أذاعوا بواسطة قنصليتهم في بلاد الأرجنتين أن حكومة طرابلس و برقة تعطي الأراضي الخصبة فيها لكل إيطالي يريد النقلة إليها، وبلغت مساحة الأراضي التي أخذت غصباً نحو من مائتي ألف هكتار ولاتزال الحكومة الإيطالية تحث الإيطاليين على استعمار هذه الأراضي وقبل انتزاع أراضي الجبل الأخضر من أهله في هذه السنة انتزعت في سنة 1924م ما مساحته 420 ألف هكتار بدون مقابل، وفي بعض الأحيان كان المقابل عن المائة ألف هكتار ستة آلاف فرنك إيطالي - أي خمسين جنيها تقريباً، وقد خرج أهالي الجبل الأخضر عند انجلائهم منه وهم لايملكون مايقتاتون به فرتبوا لكل عائلة فرنكين في اليوم وهم الآن يعيشون بهذا المرتب عيشة بؤس تفتت الأكباد، وفي أثناء نقلهم إلى صحراء سرت كان كلما عجز واحد منهم عن مواصلة المشي يرمى بالرصاص.
ترحيل الأطفال إلى إيطاليا لتنصيرهم:
وفضلاً عن كل ذلك فقد جمع الإيطاليون الأطفال الوطنيين من 3 إلى 14 وأخذوهم من أهلهم وأرسلوهم إلى إيطاليا بزعم تعليمهم فيها، وجمعوا الشبان من سن 15 إلى 40 وألحقوهم بالجيش واستخدموهم في محاربة أهلهم وبلادهم.
أرساليات التبشير بين الأهالي:
وبلغ الاستهتار بالشعور الإسلامي مبلغاً عظيماً بين إرساليات التبشير المنبثة الآن بين الأهالي، ومن صدور الأوامر المشددة على الخطباء في الجوامع بالدعاء لملك إيطاليا على المنابر.
خداعها للأهالي:
وقد حدث مراراً أن الحكومة تعلن عن العفو والأمان، فإذا وقع العفو عنهم وغدو في قبضتهم غدرت بهم، وممن ذهبوا ضحية هذا الغدر من رؤساء القبائل خليفة بن عسكر، والشيخ عبيدة الصرماني، وأحمد الباشا، وابراهيم بن عباد، والهادي كعبار وابنه محمد كعبار، والشيخ أحمد أحمد الحجاوي، والشيخ علي الشويخ، والشيخ عبدالسلام بن عامر، والشيخ محمد التريكي، والشيخ شرف الدين العمامي، والشيخ أحمد بن حسن بن المنتصر، والشيخ عمر العوراني، والشيخ محمد عبدالعال، ومن الضحايا لايعرف لهم ذنب، الشيخ صالح العوامي وهو شيخ يبلغ التسعين عاماً من أهل العلم والصلاح قبضت عليه إيطاليا سنة 1923 وزجته في سجن بنغازي إلى أن مات فدفن بمحل مجهول، فأرواح هؤلاء الضحايا تصيح بالإنسانية جميعها، وبجمعية الأمم بنوع خاص أن هلمي إلى انقاذ البقية الباقية من أبناء الإنسانية المعذبة في هذه الربوع من سياسة الفتك والاستئصال والإبادة التي تتبعها إيطاليا في طرابلس المنكودة وأن العالم الإسلامي يعتبر ماوقع ويقع في طرابلس الغرب عدواناً مباشراً على كل مسلم مهما كانت جنسيته ووطنه، وسيبقى عار هذه الأعمال لاصقاً لإجراء تحقيق دولي حر دقيق في نفس بلاد برقة وطرابلس عن كل ماجرى فيها وإعلان نتيجته كما تقتضيه العدالة والحق، والموقعون على هذا يطلبون من جمعية الأمم اجراء هذا التحقيق تنزيهاً للإنسانية عن لحوق هذا العار بها إلى الأبد ويرجون بالحاح أن يكون لهم مندوب يختارونه مع لجنة التحقيق، وهم ينتظرون ماتقرره العصبة في هذا الشأن بفارغ الصبر.
التوقيعات:
1- محمد الشرقاوي.
2- خليل الخالدي رئيس الاستئناف الشرعي بفلسطين.
3- محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الإسلامية.
4- محمد عبداللطيف دراز من العلماء وعضو مجلس إدارة.
5- جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.
6- محمد عبدالرحمن قراعة من العلماء ومدرس بالأزهر الشريف.
7- عبدالوهاب النجار، وكيل جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة.
8- محمد كامل القصاب.
9- محمد تقي الدين الهلالي، الأستاذ الأول للآداب العربية بندوة العلماء بالهند.
10- علي سرور الزنكلوني، المدرس بقسم التخصص بالأزهر.
لقد عبث الجنود الإيطاليين بالمكتبة السنوسية، التي كانت ثروة علمية ضخمة فأخذت أيدي الجنود تبددها ذات اليمين وذات الشمال وتقد بها النيران للطعام، وأخيراً صدرت الأوامر بجمع ماتبقى منها ونقله إلى بنغازي فنقلته أربعون سيارة شحن كبيرة وعدد كبير من الإبل، ولم تنج هذه المكتبة بعد وصولها إلى بنغازي من العبث فقد تسرب الكثير منها إلى أيدي الأفراد، ونقل قسم كبير منه إلى إيطاليا، وهكذا وصلت يد الفساد الإيطالية إلى كل شيء في ليبيا.
عندما تم اعتقال جميع أهالي برقة وحصرهم، وتم احتلال واحة الكفرة لم يعد إذن أمام سفاح برقة إلا شيء واحد هو اتمام وضعية مد الأسلاك الشائكة التي ستفصل بين برقة ومصر فصلاً نهائياً، فأخذ في سرعة تتميمها مجنداً لذلك كل مالديه من إمكانيات، وكان قد استدعى شركات المقاولات الخاصة من إيطاليا، فتعهدت كل شركة منها بإتمام الجزء المخصص لها تحت إشراف القيادة العسكرية التي وضعت مهندسيها تحت تصرف هذه الشركات، وقد استوردت الحكومة الإيطالية معدات خاصة من ألمانيا فضلا عما جاءت به من إيطاليا لهذا الغرض المطلوب، ووضعت تحت تصرف هذه الشركات عشرات الآلاف من العمال الذين جندتهم من المعتقلات تلهب ظهورهم السياط، وهكذا امتد خط الأسلاك الشائكة من البحر المتوسط إلى مابعد الجغبوب فكان طوله حوالي ثلاثمائة كيلومتر، ثم وضع غرسياني نقاط عسكرية مزودة بجميع المعدات الحربية، وربط بعضها ببعض من حيث الاتصال فيما إذا احتاجت نقطة لمساعدة الأخرى تهب بسرعة، ومن هذه النقاط: مساعد، والشقة وبئر الغبي، وقبر صالح، وسيدي عمر، وبئر حكيم، ثم زوّد غرسياني هذا السياج المحكم بمولدات كهربائية لمده بالنور حتى لايستطاع الافلات منه مهما تكن الأحوال، وإذا ماقدر لأي إنسان أن يصل إليه فسيواجه معركتين عسيرتين لاسبيل لإفلاته من إحداهما إذا ماتيسر له الإفلات من الأخرى، وتتمثل المعركتان في محاولة تقطيع الأسلاك، وفي الدفاع عن النفس، وتقطيع الأسلاك يحتاج إلى معدات فنية وإلى وقت من الزمن فكيف إذن لمن يتمكن من الوصول إلى هذا السياج إجراء عملية التقطيع وعملية الدفاع في آن واحد.
كان المجاهدون مستمرين في جهادهم والقوات الإيطالية تشتبك معهم وهي مجهزة بالمصفحات والطائرات والمدفعية وكان القتال لايتوقف وقد أورد الجنرال غرسياني في كتابه أنه التقى مع
كان المجاهدون يقضون معظم أوقاتهم في حالة استعداد قصوى ويوجهون الضربات المحكمة للطليان وحار سفاح برقة في أمر المجاهدين، ورغم الإجراءات التي اتخذها والتي كان يثق في فائدتها إلا أنه أصيب بالقنوط واليأس وأصبح كل أمله في موت
إن
وقلت له مواصلاً الحديث: إن الدولة الإيطالية في حاجة لاستثمار كل شجرة في هذه البلاد، وسوف يكون فضل هذا الاستثمار المنتظر على أيديكم فإذا ما أقدمتم على حرق الغابات والكلمة الأخيرة لدولتكم فسوف يمر زمن طويل وطويل جداً دون إعادتها من جديد لما كانت عليه، هذا إذا لم يكن إعادتها مستحيلاً، وإليكم يادولة الوالي نذكر مسألة لها وجه الشبه برأيكم هذا. في عهد الدولة العثمانية قامت قبيلة البراعصة بعصيان ضد الحكومة وتعذر على الحكومة انهاء العصيان، واعتبرت أن غابات الجبل الأخضر كانت أكبر مشجع للقبائل على العصيان فتتخذ منه مخابئ لايقوى الجنود العثمانيون على إكتشافها فأرادت الحكومة أن تقوم بحرق جميع الغابات وسمع السلطان بذلك فاعترض على هذه الفكرة قائلاً: إذا كان الموجب لعصيان الأهالي هو تمنعهم عن دفع العشور والعوائد الحكومية فإنني أدفعها عنهم من جيبي الخاص حماية للغابات في الجبل الأخضر، ولا أوافق على حرقها. وعندما إنتهيت من الحديث معه ودعني شاكراً).
لقد حرص صالح بك المهدوي على حماية الجبل الأخضر من عبث غرسياني الذي كانت في يده إمكانات إيطاليا للقضاء على حركة الجهاد ولذلك جادل وناقش وحاول أن يقنع غرسياني بالإقلاع عن تلك الفكرة الجهنمية لقد قال صالح بك عندما سئل عن صحة ما إذا كانت الحكومة العثمانية فكرت في إحراق غابات الجبل الأخضر، فأجاب بقوله: إن المسألة التي ضربت بها المثل للجنرال غرسياني كانت لها أثر في عهد قديم والحديث عنها يطول، والطليان لايريدون ذكرها من وجهة سياسية محضة وعلى كل حال كنت أرمي بذكرها للجنرال غرسياني إلى حماية جبلنا من عبث هذا المجنون الذي وضعوا في يده سيفاً حاداً.
كان غرسياني يملك القوات الضخمة في البر والبحر والجو، والسلطة الغاشمة المستبدة في برقة، والخزائن المرصوفة بالأموال، والسجون والمعتقلات والمشانق، ومع هذا يضعف ويسيطر عليه العجز أمام المجاهدين وقائدهم العظيم حتى دفعه تفكيره إلى حرق الغابات بعد أن تمكن من حرق الأكباد، والأفئدة والأجسام لقد وقع تحت تأثير عصبي حاد من جراء ما أصابه من الفشل الذريع وكان في طريقه إلى الإستقالة أو الإقالة لولا تقدير الله بوقوع
أحمد الشريف يحترق على بلاده ويرسل محمد أسد لمعرفة أخبار المجاهدين:
كان محمد أسد صاحب كتاب الطريق إلى الإسلام قد تعرف على أحمد الشريف أثناء إقامته في الحجاز وقد تأثر به غاية التأثر، وأحبه حباً عظيماً، يقول محمد أسد: (ليس في الجزيرة العربية كلها شخص أحببته كما أحببت السيد أحمد، ذلك أنه مامن رجل ضحى بنفسه تضحية كاملة مجردة عن كل غاية في سبيل مثل أعلى، كما فعل هو. لقد وقف حياته كلها، عالماً ومحارباً، على بعث المجتمع الإسلامي بعثاً روحياً، وعلى نضاله في سبيل الاستقلال السياسي ذلك أنه كان يعرف جيداً أن الواحد لايمكن أن يتحقق من دون الآخر)
لقد تعرف محمد أسد على أحمد الشريف بواسطة المجاهد الأندونيسي حاجي آغوس سالم الذي كان يمثل مركز القيادة في جهاد اندونيسيا ضد أعدائها، وكان قد جاء معه بقصد الحج وعندما عرف السيد أحمد الشريف أن محمد أسد حديث عهد بالإسلام، مد إليه يده وقال: (مرحباً بك بين إخوانك، يا أخي الشاب ..). لقد أحب محمد أسد أحمد الشريف وتفاعل مع قضية ليبيا وكان يمضي معه وبصحبة السيد محمد الزوي الساعات الطوال للبحث في وضع المجاهدين في ليبيا واستمرت الإجتماعات في مساء كل يوم طيلة أسبوع تقريباً لبحث ماكان بالإمكان صنعه، وقد رأى الشيخ محمد الزوي أن إمداد المجاهدين بين الفينة والأخرى لم يكن من شأنه أن يحل المشكلة، فقد كان يعتقد أن واحة الكفرة، في الجنوب من صحراء ليبيا يجب أن تكون ثاني محور لكل العمليات الحربية في المستقبل وكان يظن أن الكفرة كانت ماتزال بعيدة عن تناول الجيوش الإيطالية، وفوق ذلك فقد كانت تقع على طريق القوافل (ولو كان طويلاً وشاقاً) إلى واحتي بحرية وفرفرة المصريتين، ولذا كان يمكن تموينها بصورة جادة أكثر من أي موقع آخر في ليبيا، كما كان يمكن أن يتحول كثير من المهاجرين إلى مصر إليها لتكون مستودعاً دائماً لإمداد
لقد تحدث محمد أسد عن سبب اهتمامه بالقضية السنوسية فقال: لم يكن اهتمامي البالغ بمصير السنوسيين ناشئاً عن إعجابي ببطولتهم المتناهية في قضية عادلة مقسطة فحسب، بل ان ماكان يهمني أكثر من ذلك هو ماكان يمكن أن يحدثه انتصار السنوسيين من تأثير على العالم العربي بأكمله إذ أنني لم استطع أن أرى في العالم الإسلامي كله إلا حركة واحدة كانت تسعى صادقة إلى تحقيق المجتمع الإسلامي المثالي: الحركة السنوسية، التي كانت تحارب الآن معركتها الأخيرة في سبيل الحياة وبسبب أن السيد أحمد كان يعرف مبلغ عطفي الشديد على القضية السنوسية، فقد التفت إلي وسدد نظره إلى عيني وسألني قائلاً: (هل تذهب، يامحمد إلى برقة بالنيابة عنا، فتقف على مايمكن صنعه للمجاهدين؟ لعلك تستطيع أن ترى الأمور بأجلى مما يراها بنو قومي ...)
وبعد أن وافق محمد أسد على تلك المهمة الصعبة تناول أحمد الشريف من على أحد الرفوف نسخة من القرآن الكريم ملفوفة بغلاف من الحرير، وبعد أن وضعها على ركبتيه أمسك بيدي اليمنى بين يديه ووضعها على الكتاب:
(أقسم يامحمد، بالله الذي يعلم مافي القلوب، على أنك ستبقى أميناً للمجاهدين ...).
قال محمد أسد: فأقسمت ولم أشعر في حياتي يوماً أنني كنت أكثر وثوقاً بوعدي مما كنت في تلك اللحظة
قام أحمد الشريف بترتيب أمور هذه الرحلة واتصل باتباع الحركة في مصر ووصل الخبر إلى
لقاءه بعمر المختار :
بعد دخول محمد أسد إلى الجبل الأخضر من جهة الصحراء الغربية المصرية بواسطة المجاهدين الذين أرسلهم
واقتربت منه لأحييه، وشعرت بالقوة التي ضغطت بها يده على يدي (مرحباًبك، يا ابني) قال ذلك وأخذ يجيل عينيه في متفحصاً: لقد كانت عيني رجل كان الخطر خبزه اليومي.
وفرش أحد رجاله حراماً على الأرض فجلس سيدي عمر عليه متثاقلاً. وانحنى عبدالرحمن ليقبل يده ثم شرع بعد استئذانه، يوقد ناراً خفيفة تحت الصخرة التي كنا محتمين بها وعلى ضوء النار الخافت، قرأ سيدي عمر الكتاب الذي حملنيه السيد أحمد إليه. لقد قرأه باهتمام وعناية، ثم طواه ووضعه لحظة فوق رأسه - وهي إمارة الإحترام والحب لايكاد المرء يراها في جزيرة العرب ولكنه كثيراً مايراها في شمالي افريقيا - ثم التفت إلي مبتسماًوقال: (لقد أطراك السيد أحمد، أطال الله عمره، في كتابه. أنت على استعداد لمساعدتنا، ولكنني لا أعلم من أين يمكن أن تأتينا النجدة، إلا من الله العلي الكريم. إننا حقاً على وشك أن نبلغ نهاية أجلنا ..).
فقلت: (ولكن .. هذه الخطة التي وضعها السيد أحمد، ألا يمكن أن تكون بداية جديدة؟ وإذا أمكن تدبير الحصول على المؤن والذخائر من الكفرة بصورة ثابتة، أفلا يمكن صد الإيطاليين؟ ).
لم أرى في حياتي ابتسامة تدل على ذلك القدر من المرارة واليأس كتلك الابتسامة التي رافقت جواب سيدي عمر: (الكفرة ...؟ لقد خسرنا الكفرة، فالإيطاليون قد احتلوها منذ أسبوعين تقريباً ...).
وأذهلني الخبر، ذلك إنني والسيد أحمد، طوال تلك الأشهر الماضية، كنا نبني خططنا على افتراض أن الكفرة يمكن أن تكون نقطة تجمع لتقوية المقاومة، أما وقد ضاعت كفرة فإنه لم يبق للسنوسيين سوى نجد الجبل الأخضر لاشيء سوى كماشة الإيطاليين التي كانوا يضيقونها بثبات واستمرار .. وخسارة نقطة بعد نقطة .. واختناق بطئ).
- وكيف سقطت الكفرة؟
فأومأ سيدي عمر إيماءة متعبة إلى أحد رجاله أن يقترب: (دع هذا الرجل يقص عليك الخبر .. إنه واحد من أولئك القلائل الذين هربوا من الكفرة، ولم يصل عندي إلا بالأمس).
وجلس الكفري على ردفيه أمامي وجذب برنسه البالي حوله وتكلم ببطء دون أن يبدو في صوته أي أثر للانفعال، ولكن وجهه الناحل كان يعكس جميع الأهوال التي شهدها.
- (لقد خرجوا علينا في ثلاث فرق من ثلاث جهات، وكان معهم سيارات مصفحة ومدافع ثقيلة كثيرة. أما طائراتهم فقد حلقت على علو منخفض ورمت بالقنابل البيوت والمساجد وغياض النخيل. لم يكن لدينا سوى بضع مئات من الرجال يستطيعون حمل السلاح، أما الباقون فقد كانوا نساء وأطفالاً وشيوخاً. لقد دافعنا عن أنفسنا بيتاً بيتاً، ولكنهم كانوا أقوى كثيراً منا، وفي النهاية لم يبق إلا قرية الهواري. لم تنفع بنادقنا في سياراتهم المصفحة فطغوا علينا، وتمكن عدد قليل جداً من الهرب. أما أنا فقد اختبأت في حدائق النخيل، مترقباً الفرصة لشق طريقي خلال الخطوط الإيطالية، وكنت طوال الليل أسمع ولولة النساء اللواتي كان الجنود الإيطاليون والعساكر الاريتريون يغتصبونهن وفي اليوم التالي احضرت لي امرأة عجوز بعض الماء والخبز، واخبرتني أن الجنرال الإيطالي قد حشد كل ماتبقى على قيد الحياة أمام قبر السيد محمد المهدي وأمام أعينهم مزق نسخة من القرآن الكريم ثم رماها الى الارض وداس عليها بحذائه صائحاً: (دعوا نبيكم البدوي يساعدكم الآن، اذا استطاع!) ثم أمر بقطع اشجار النخيل في الواحة وهدم آبارها، واحرق كل ماكان في مكتبة السيد احمد البدوي من كتب وفي اليوم التالي اصدر امره بوضع بعض شيوخنا وعلمائنا في طائرة حلقت بهم ورمتهم من علو شاهق، وطوال الليلة التالية كنت اسمع من مخبئي صرخات النساء وضحكات الجنود وطلقات بنادقهم ... واخيراً زحفت الى الصحراء في ظلام الليل فوجدت جملاً شارداً امتطيته ووليت فراراً...).
وعندما انهى الرجل قصته المروعة قربني سيدي عمر إليه بلطف وكرر قوله: (انك تستطيع ان ترى، يابني، اننا قد اقتربنا فعلاً من نهاية أجلنا) ثم اضاف: (اننا نقاتل لأن علينا ان نقاتل في سبيل ديننا وحريتنا حتى نطرد الغزاة او نموت نحن وليس لنا ان نختار غير ذلك. إنا لله وإنا إليه راجعون - لقد ارسلنا نساءنا واولادنا الى مصر كيما نطمئن على سلامتهم متى شاء الله لنا أن نموت).
قلت: (ولكن ياسيدي عمر، اليس من الافضل لك وللمجاهدين ان تنسحبوا الى مصر بينما لايزال هناك طريق مفتوح امامكم؟ فلقد يكون من الممكن في مصر جمع المهاجرين الكثيرين من برقة وتنظيم قوة اكثر فعالية وجدوى. ان القتال هناك يجب ان يوقف بعض الوقت حتى يستعد الرجال شيئاً من قوتهم ... انا اعرف ان البريطانيين في مصر لاينظرون بعين الرضى الى وجود قوات ايطالية راسخة الاقدام على خاصرتهم، فقد يغضون الطرف، والله اعلم، عن استعداداتكم فيما اذا اقنعتموهم بانكم لا تعتبرونهم اعداء...).
فأجاب : (كلا ياابني، لم يعد هذا يجدي الآن. ان ماتقوله كان ممكناً منذ خمس عشرة او ست عشرة سنة، قبل ان يقوم السيد احمد، اطال الله عمره، بمهاجمة البريطانيين كي يساعد الاتراك - الذين لم يساعدونا ... أما الآن فلم يعد في الامر مايجدي.. ان البريطانيين لن يحركوا اصبعاً لكي يسهلوا علينا امرنا، والايطاليون مصممون على ان يقاتلونا حتى النهاية، وعلى سحق كل إمكانية للمقاومة في المستقبل، فاذا ذهبت واتباعي الآن الى مصر، فاننا لن نتمكن مطلقاً من العودة ثانية، وكيف نستطيع ان نتخلى عن قومنا ونتركهم ولا زعيم لهم، لاعداء الله يفترسونهم؟).
- وما قول السيد ادريس؟ هل يشاركك الرأي ياسيد عمر ؟
- (إن السيد ادريس رجل طيب. انه ولد طيب لوالد عظيم، ولكن الله لم يعطه قلباً يمكنه من تحمل مثل هذا الصراع...).
كان زيد الشمّري رفيق محمد اسد في رحلته بصحبة خليل احد المجاهدين لأحضار قرب الماء، وبعدما رجع وقع بصر خليل على سيدي عمر هجم لتقبيل يده، وبعد ذلك قدم محمد اسد زيداً الى
- (مرحباً بك، ياأخي، من أرض اجدادي. من أي العرب انت؟" وعندما اخبره زيد انه من قبيلة شمر، أومأ عمر برأسه مبتسماً : (آه ، اذن انت من قبيلة حاتم الطائي، اكرم الناس يداً...).
وقدم لهم رجال المختار بعض التمر ودعاهم المختار الى ذلك الطعام البسيط فأكلوا، ونهض قائد المجاهدين وقال: (آن لنا أن نتحرك من هنا. اننا على مقرب من المركز الايطالي في بوصفية، ولذا لا نستطيع ان نتأخر حتى الفجر..).
وتحرك محمد اسد مع قائد حركة الجهاد ووصل الى معسكر المجاهدين ووقعت عيناه على امرأتين احدهما مسنة والاخرى شابة - في المعسكر كانتا جالستين بالقرب من احد النيران، مستغرقتين في اصلاح سرج ممزق بمخرز غليظ.
وعندما لحظ الشيخ
اتفق
وقد تبين بعد ذلك ان ظنونه ومخاوفه كانت في محلها، ذلك انه بعد بضعة اشهر تمكنت قافلة تحمل المؤمن والذخائر من الوصول فعلاً الى المجاهدين ، إلا ان الايطاليين اكتشفوها بينما كانت تجتاز الفجوة بين الجغبوب وجالو، وسريعاً ما انشأوا بعد ذلك مركزاً محصناً في بير طرفاوي على نصف المسافة تقريباً بين الواحتين، مما جعل، بالاضافة الى الدوريات الجوية المستمرة، كل مسعى آخر من هذا النوع خطراً الى أبعد الحدود.
وكان قد تقرر رجوع محمد اسد وزيد الشمرّي الى الحجاز ورجوع من حيث أتوا بواسطة المجاهدين البواسل الذي رتبوا الامور، وأخذوا بالاسباب، وحافظوا على ضيوفهم الكرام.
يقول محمد اسد: وودعت وزيد
وقدوصف لنا محمد اسد آخر لقاء مع السيد احمد الشريف فقال: ومرة اخرى وقفت امام إمام السنوسية ونظرت الى وجه ذلك المحارب القديم المرهق ، ومرة اخرى قبلت اليد التي حملت السيف طويلاً جداً حتى انها لم تعد تستطيع بعد ان تحمله.
- (بارك الله فيك، يابني.. لقد مضت سنة منذ ان التقينا اول مرة، وهذه السنة قد شهدت نهاية آمالنا ولكن الحمدلله على كل حال...).
والحق انها كانت سنة مفعمة بالهموم والاكدار بالنسبة الى احمد: لقد اصبحت الاخاديد حول فمه اكثر عمقاً، واصبح صوته اكثر انخفاضاً من أي وقت مضى.
لقد هوى النسر. انه يجلس منكمشاً على السجادة، وقد لف نفسه ببرنسه الابيض كأنما يطلب الدفء، ويحدق بصمت في الفراغ وهمس: (لو اننا استطعنا فقط ان ننقذ عمر المختار. لو اننا تمكنا من اقناعه بالهرب الى مصر بينما كان هناك متسع من الوقت...).
فقلت له : (لم يكن باستطاعة احد ان ينقذ سيدي عمر. انه لم يرد ان ينقذ. لقد فضل ان يموت اذا لم يستطع ان ينتصر. لقد عرفت ذلك عندما فارقته ياسيدي احمد ....).
إن احمد الشريف اهتم ببلاده بمجرد هجرته منها وكان على إتصال بالمجاهدين وقد حدثني السيد عبدالقادر بن علي أن احمد الشريف قام بكتابة رسائل الى قبائل برقة يحثهم فيها على السمع والطاعة للشيخ
الاسد يقع اسيراً:
ظل المختار في الجبل الاخضر يقاوم الطليان على الرغم من هذه الصعوبات الجسيمة التي كانت تحيط به وبرجاله وكانت من عادة
أسرت وماصحبي بعزل لدى الوغى
وكم من صدى صوتي ليوث الشرى فروا
وما أحد في الحرب يجهل سطوتي ولا
فرسي مهر ولا ربه غمر
ولكن إذا حم القضاء على أمرئ
يكون ولا يغني من القدر الحذر
ومن رام من أمر الاله وقايه
فليس له بر يقيه ولا بحر
والتفت المجاهد بن قويرش فرأى الموقف المحزن وصاح في إخوانه الذين شقوا الطريق للخروج من الحصار قائلاً: (الحاجة التي تنفع عقبت أي تخلفت) ، فعادوا لتخليص قائدهم ولكن رصاص الطليان حصد أغلبهم، وكان ابن قويرش اول من قتل وهو يحاول انقاذ الشيخ الجليل ، وهجم جنود الطليان على الاسد الجريح دون ان يعرفوا شخصيته في البداية، وتم القبض عليه وتعرف عليه احد الخونة، وجاء الكمندتور داود باتشي متصرف درنة ليتعرف على الاسير وبمثل سرعة البرق نقل
يقول غراسياني في مذكراته: في صباح يوم 11 سبتمبر 1931م وصل الخبر برقياً الى الحكومة من متصرفية الجبل هذا نصها: (بالقرب من (سلطنة) فرقة الفرسان (الصواري) قبضت على وطني وقع من على جواده اثناء المعركة وقد تعرف عليه عساكرنا بأنه
وهذا الاعتراف من غراسياني الخسيس في كتابه بأن
ويقول الجنرال غراسياني عن
وقال غراسياني في مذكراته: (أما وصف
دخول المختار في سجن بنغازي:
وعندما وصل الاسير الى بنغازي لم يسمح لأي مراسل جريدة او مجلة بنشر اخبار او مقابلات وكان على الرصيف مئات من المشاهدين عند نزوله في الميناء ولم يتمكن أي شخص مهما كان مركزه ان يقترب من الموكب المحاط بالجنود المدججين بالسلاح ونقل فوق سيارة السجن تصحبه قوة مسلحة بالمدافع الرشاشة حيث اودع في زنزانة صغيرة خاصة منعزلة عن كافة السجناء السياسيين وتحت حراسة شديدة وجديدة ويقول مترجم كتاب برقة الهادئة الاستاذ
ويقول غراسياني الجنرال الايطالي السفاك الجلاد: (واثناء الرحلة من سوسة الى بنغازي أعطى لنا معلومات هامة عن كيفية سقوطه في الأسر والقبض عليه قائلاً عندما ضرب جواده وسقط على الارض فجرحت يده اليمنى مما سببت له بعض التشقق في عظام ذراعه ورغم هذا الآلم حاول جر نفسه ليبتعد ويختفي في احد الشجرات التي في الغابة ولكن فرقة الفرسان حالت بينه وبين غرضه وقد تعرف عليه احد الصواري من فرقة الفرسان وسرعان ما أحاطت به قوتنا وقد تأسف كثيراً اثناء حديثه بأن رفاقه حاولوا انقاذه بكل وسيلة وقد ضاع منهم بعض الرفاق ولكن الكثرة حالت دون بغيتهم كذلك قلة الذخيرة لها عاملها الاصلي في عدم انقاذي واثبت كذلك ان وقوعه في الاسر لا يعني توقف الثورة والجهاد بل هناك اربعة من القادة يحلون محلي وهم الشيخ حمد بوموسى، عثمان الشامي وعبدالحميد العبار ويوسف بورحيل المسماري وهذا الاخير هو أقربهم إليه لانه كان دائماً بجانبه ، ولقد بالغ كثيراً بالنسبة لعدد الجنود فقد قال ان دوره يتكون من 500 مقاتل عادي، 400 فارس. واستطرد قائلاً شارحاً ان وقوعه في الأسر لا يؤثر ولا يغير سير القتال او وضع الدور بل سيزداد قساوة ثم اضاف اني احارب الايطاليين الفاشيستيين لا لأني اكره الشعب الايطالي ولكن ديني أمرني بالجهاد فيكم لأنكم أعداء الوطن
قلت ما أعلم احد من المسلمين الصادقين يجد في نفسه وداً للنصارى على العموم فكيف بالذين يقولون الله ثالث ثلاثة ويقولون عيسى ابن الله، لكن قول غراسياني ان
قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا ان الله ثالث ثلاثة ومامن إله إلا اله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب إليم ` أفلا يتوبون الى الله ويستغفورنه والله غفور رحيم}. (سورة المائدة ، الآيات:72،73،74).
وقال تعالى : { وقالوا اتخذ الرحمن ولداً لقد جئتم شيئاً إدّ تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هداً ان دعو للرحمن ولداً} ( سورة مريم: الآيات 88 الى 91).
فالآيات السابقة الواضحة البينة تمنع العالم الرباني والشيخ الجليل ان يقول بأنه لا يبغض اعداء الله حمات الصليب.
واستطرد غراسياني في كتابه برقة الهادئة قال : (لقد قال
وهذه بعينها عقيدة القضاء والقدر وهي من اركان الايمان التي جاء بها الاسلام وقد تجسدت في حياة
وقد تربى المختار رحمه الله تعالى على الايات القرآنية واحاديث المصطفى e فعن ابن عباس عن رسول الله e : واعلم ان الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الاقلام وجفت الصحف.
وهذه العقيدة الصحيحة كانت مستقرة في قلب الشيخ الجليل رحمه الله وتحولت الى عمل في حياته جسدته مواقف عقدية ومشاهد بطولية ولا نكون مخطيئن ان قلنا كانت مواقفه وسيرته العطرة تدل على أنه رجل عقيدة.
من مواقف العزة داخل السجن:
اراد الكمندتور رينسي (السكرتير العام لحكومة برقة) في أمسية الرابع عشر من سبتمبر أن يقحم الشارف الغرياني في موقف حرج مع
عليه ثياب لو تقاس جميعها
بفلسٍ لكان الفلس منهن اكثرا
وفيهن نفس لو تقاس ببعضها
نفوس الورى كانت أجل وأكبرا
عمر المختار أمام غراسياني السفاح:
اراد المولى عز وجل لحكمة يريدها أن يقف البطل الأشم والطود الشامخ الذي حير ايطاليا الكافرة النصرانية الكاثوليكية واشاع الرعب في قلوب جيوشها، أمام الرجل التافه الحقير المدعو غراسياني هذا حقير النفسية ، وضيع الاخلاق ، من أولئك الذين يرتفعون في كل عهد، ويأكلون على كل مائدة وكان من قادة الجيش الايطالي فلما جاء موسوليني ذلك الطبل الاجوف، وادعّى الزعامة على ايطاليا وحشر نفسه حشراً في صفوف الزعامات العالمية، كان غراسياني اول من صفق وقرع الطبول للزعامة الجديدة، وصار فاشيستياً أكثر من الفاشيستيين أنفسهم، امام هذا الرجل الحقير الذليل الخسيس التافة وقف البطل الأشم والطود المنيف شيخنا
من اجل ذلك دفعت الشماتة هذا الرجل الحقير أن يقطع رحلته الى باريس وان يعود فوراً الى بنغازي، وأن يدعوا المحكمة الطائرة الى الانعقاد ودفعت غريزة الشماته غراسياني أن يستدعي البطل في صبيحة اليوم نفسه، وقبل المحاكمة بقليل
يقول غراسياني في مذكراته : (وعندما حضر امام مدخل مكتبي تهيأ لي أني ارى فيه شخصية آلاف المرابطين الذين التقيت بهم اثناء قيامي بالحروب الصحراوية، يداه مكبلتان بالسلاسل، رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة وجهه مضغوطاً لأنه كان مغطياً رأسه (بالجرد) ويجر نفسه بصعوبة نظراً لتعبه أثناء السفر بالبحر، وبالاجمال يخيل لي أن الذي يقف أمامي رجل ليس كالرجال منظره وهيبته رغم إنه يشعر بمرارة الاسر. هاهو واقف أمام مكتبي نسأله ويجيب بصوت هادئ، وواضح وكان ترجماني المخلص النقيب (كابتن) خليفة خالد الغرياني الذي احضرته معي خصيصاً من طرابلس ووجهت له اول سؤال : لماذا حاربت بشدة متواصلة الحكومة الفاشيستية؟
ج- لأن ديني يأمرني بذلك.
س- هل كنت تأمل في يوم من الايام أن تطردنا من برقة بامكانياتك الضئيلة وعددك القليل.
ج- لا هذا كان مستحيلاً.
س- إذاً ماالذي كان في اعتقادك الوصول إليه؟
ج- لا شيء إلا طردكم من بلادي لأنكم مغتصبون ، أما الحرب فهو فرض علينا وماالنصر إلا من عند الله.
س- لكن كتابك يقول: {ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة} بمعنى لاتجلبوا الضرر لأنفسكم ولا لغيركم من الناس، القرآن يقول هذا.
ج- نعم.
س- إذاً لماذا تحارب؟
ج- كما قلت من أجل وطني وديني.
قال غراسياني : فما كان مني إلا أن قلت له أنت تحارب من أجل السنوسية تلك المنظمة التي كانت السبب في تدمير الشعب والبلاد على السواء وفي الوقت نفسه كانت المنظمة تستغل أموال الناس بدون حق هذا هو الحافز الذي جعلك تحاربنا لا الدين والوطن كما قلت .
س- لماذا قطعت المهادنة السارية وامرت بالهجوم على (قصر بن قدين) .
ج- لأنه منذ شهر ارسلت الى المارشال (بادوليو) ولم يجيبني عنها وبقيت بدون رد حتى الآن.
يقول الجنرال لا أنت أردت قطع المهادنة لحاجة في نفسك وهاك الدليل وقرأت له البيان الذي نشره فوق الجرائد المصرية بتوقيعه؟ولم يرد في بادئ الأمر وحنى رأسه مفكراً ثم قال:
س- هل أمرت بقتل الطيارين هوبر وبياتي.
ج- نعم: كل الاخطاء والتهم في الواقع هي مسؤولية الرئيس والحرب هي الحرب.
الجنرال : قلت له هذا صحيح لو كان حرباً حقيقية لا قتل وسلب مثل حروبك.
الجنرال: بموقفك في موقعة (قصربن قدين) ضيعت كل أمل وكل حق في الحصول على رحمة وعفو الحكومة الايطالية الفاشيستية.
الجنرال: ولماذا لم تفعل؟
الجنرال: ولكن قد تحقق فيما بعد إلقاء القبض عليه كانت بندقيته فوق ظهره وبسقوطه على الأرض لم يستطيع نزعها وبالتالي لم يتمكن من استعمالها بسرعة وكذلك من أثر الجروح والكسر الذي بيده اليمنى وهذا في الحقيقة جدير بالاعتبار والتقدير.
وهذا اعتراف من السفاح إبان تجبره وطغيانه ونشوة انتصاره يعترف بقوة
جرح يصيح على المدى وضحيه
تلتمس الحرية الحمراء
الجنرال: أشرت له فجلس على كرسيه أمام مكتبي وفي هذه الاثناء ظهر لي وجهه بوضوح وقد زالت رهبة الموقف وقد تأملته جانبياً فرأيت بعض الاحمرار في وجهه وبدأت أفكر كيف كان يحكم ويقود المعارك. وبينما هو يتكلم كانت نظراته ثابتة الى الامام وصوته نابع من أعماقه ويخرج من بين شفتيه بكلمات ثابتة وبكل هدوء وفكرت ثانية هذا هو القديس، لان كلامه عن الدين والجهاد يدل بكل تأكيد أنه مؤمن صادق يتكلم عن الدين بكل حماس وتأثر . ثم قلت له فجأة: بمالك من نفوذ وجاه كم يوم يمكنك أن تأمر العصاة (يعني المجاهدين) بأن يخضعوا لحكمنا ويسلموا اسلحتنا وينهوا الحرب.
الجنرال: قلت له وانا متماسك يمكن ذلك لو تم تعارفنا في وقت سابق والخبرة طويلة التي أخذتها عليكم لكان علينا ان نصل الى احسن حال في سبيل تهدئة البلاد وازدهارها.
(
الجنرال: فأجبته: لقد فات الأوان.
وعند هذا الحد رأيت ان نوقف المحادثة فيما بيننا ربما
(الجنرال) فأجبته: منذ ذلك اليوم اقتنعت بأنك ستقع أسيراً بين يدي.
واستطرد يقول ولكن ما الفائدة منها الآن هي وصاحبها بين يديك.
(الجنرال) قلت له: مرة اخرى أنت تعتبر نفسك محمياً من الله تحارب من أجل قضية مقدسة وعادلة؟
(
إذاً استمع الى ماأقوله لك. أمام قواتي المسلحة من نالوت الى الجبل الاخضر في برقة كل مشايخ ورؤساء العصاة (يعني رؤساء المجاهدين) منهم من هرب ومنهم من قتل في ميدان القتال ولم يقع منهم أي احد حياً في يدي أليس من العجيب أن يقع أسيراً بين يدي حياً من كان يعتبر اسطورة الزمن الذي لم يغلب ابداً المحمي من الله دون سواه؟؟
(
(الجنرال) قلت له: الحياة وتجاربها تجعلني أعتقد وأؤمن بأنك كنت دائماً قوياً ولهذا فإني أتمنى أن تكون كذلك مهما يحدث لك ومهما تكن الظروف.
(
لقد خرج من مكتبي كما دخل عليّ وأنا أنظر إليه بكل إعجاب وتقدير
قال شوقي رحمه الله:
واتى الامير يجر ثقل حديده
أسد يجرجر حية رقطاء
محاكمة
في الساعة الخامسة مساءً في 15 سبتمبر 1931م جرت تلك المحاكمة التي أعد لها الطليان مكان بناء (برلمان برقة) القديم وكانت محاكمة صورية شكلاً وموضوعاً.
ودليل ذلك أن الطليان قبحهم الله كانوا قبل بدء المحاكمة بيوم واحد قد أعدوا (المشنقة) وانتهوا من ترتيبات الإعدام وتنفيذ الحكم قبل صدوره، وإنك لتلمس ذلك في نهاية الحديث الذي دار بين البطل وبين غراسياني حيث قال له (إني لأرجو أن تظل شجاعاً مهما حدث لك أو نزل بك).
وإنها لكلمات تفوح بالخبث والدناءة والشماتة، ومعناها إنك يامختار سوف تعدم شنقاً، فلا تجبن أمام المشنقة ولاشك عندي لو كان غراسياني في موقف شيخنا لمات من الجبن قبل أن يساق للمشنقة ولكن شيخنا الجليل وأستاذنا الكريم وقائد الجهاد يزداد سمواً بعد سمو ثم يقول (إن شاء الله).
ويصف الدكتور العنيزي ذلك فيقول (جاء الطليان بالسيد
وبعد استجواب السيد ومناقشته وقف المدعي العام بيدندو، فطلب الحكم على السيد بالإعدام.
(وعندما جاء دور المحامي المعهود إليه بالدفاع عن السيد عمر وكان ضابطاً إيطالياً يدعى الكابتن لونتانو، وقف وقال: (كجندي لا أتردد البته إذا وقعت عيناي على
وعندئذ تدخل المدعي العمومي، وقطع الحديث على المحامي وطلب من رئيس المحكمة أن يمنعه من إتمام مرافعته مستنداً في طلبه هذا إلى أن الدفاع خرج عن الموضوع، وليس من حقه أن يتكلم عن كبر سن
ولكن المحامي استمر في دفاعه قائلاً: سيدي القاضي حضرات المستشارين لقد حذرت المحكمة من مغبة العالم الإنساني والتاريخ وليس لدي ما أضيفه إلاّ طلب تخفيف الحكم على هذا الرجل صاحب الحق من الذود عن أرضه ودينه وشكراً).
وعندما قام النائب العام لمواصلة احتجاجه قاطعه القاضي برفع الجلسة للمداولة وبعد مضي فترة قصيرة من الانتظار دخل القاضي والمستشاران والمدعي العام بينما المحامي لم يحضر لتلاوة الحكم القاضي بإعدام
وأراد رئيس المحكمة أن يعرف ماقاله السيد عمر .. فسأل الترجمان أن ينقل إليه عبارته، ففعل، وعندئذ، بدا التأثير العميق على وجوه الإيطاليين أنفسهم الذين حضروا هذه المحكمة الصورية وأظهروا إعجابهم لشجاعة شيخ المجاهدين بليبيا الحبيبة وبسالته في آن واحد.
وأما المحكمة، فقد استغرقت من بدئها إلى نهايتها ساعة واحدة وخمس عشرة دقيقة فحسب، من الساعة الخامسة مساء إلى الساعة السادسة والربع وكذلك قضت إرادة الله تعالى أن يتحكم الطليان في مصير البطل، لتتم الإرادة الإلهية وتمضي الحكمة الربانية.
{وربك يخلق مايشاء ويختار ماكان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عمّا يشركون} (سورة القصص، آية 68).
{ما أصاب من مصيبة إلاّ بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم} (سورة التغابن: آية 110).
إعدام شيخ الجهاد في بلادنا الحبيبة:
وفي يوم 16 سبتمبر من صباح يوم الأربعاء من سنة 1931 عند الساعة التاسعة صباحاً نفذ الطليان في (سلوق) جنوب مدينة بنغازي حكم الاعدام شنقاً في شيخ الجهاد وأسد الجبل الاخضر بعد جهاد طويل ومرير .
ودفعت الخسة بالايطاليين أن يفعلوا عجباً في تاريخ الشعوب ، وذلك انهم حرصوا على ان يجمعوا حشداً عظيماً لمشاهدة التنفيذ فأرغموا أعيان بنغازي، وعدداً كبيراً من الاهالي من مختلف الجهات على حضور عملية التنفيذ فحضر مالا يقل عن عشرين الف نسمة . على حد قول غراسياني في كتاب برقة الهادئة.
ويقول الدكتور العنيزي ( لقد ارغم الطليان الاهالي والاعيان المعتقلين في معسكرات الاعتقال والنازلين في بنغازي على حضور المحاكمة، وحضور التنفيذ وكنت احد اولئك الذين ارغمهم الطليان على المحاكمة، ولكني وقد استبد بي الحزن شأني في ذلك شأن سائر ابناء جلدتي، لم اكن استطيع رؤية البطل المجاهد على حبل المشنقة فمرضت، ولم يعفني الطليان من حضور التنفيذ في ذلك اليوم المشئوم، الا عندما تيقنوا من مرضي وعجزي عن الحضور .
ويالها من ساعة رهيبة تلك التي سار المختار فيها بقدم ثابتة وشجاعة نادرة وهو ينطق بالشهادتين الى حبل المشنقة ، وقد ضل المختار يردد الشهادتين أشهد ان لااله الا الله ، وأشهد ان محمد رسول الله.
لقد كان الشيخ الجليل يتهلهل وجه استبشاراً بالشهادة وارتياحاً لقضاء الله وقدره، وبمجرد وصوله الى موقع المشنقة اخذت الطائرات تحلق في الفضاء فوق ساحة الاعدام على إنخفاض، وبصوت مدوي لمنع الاهالي من الاستماع الى
وهناك اعمل فيه الجلاد حبل المظالم فصعدت روحه الطاهرة الى ربها راضية مرضية ، هذا وكان الجميع من اولئك الذين جاءوا يساقون الى هذا المشهد الرهيب ينظرون الىالسيد عمر وهو يسير الى المشنقة بخطى ثابتة، وكانت يداه مكبلتين بالحديد وعلى ثغره ابتسامة راضية، تلك الابتسامة التي كانت بمثابة التحية الأخيرة لأبناء وطنه، وقد سمعه بعض المقربين منه ومنهم ليبيون أنه صعد سلالم المشنقة وهو يؤذن بصوت هادئ آذان الصلاة وكان أحد الموظفين الليبيين من أقرب الحاضرين إليه، فسمعه عندما وضع الجلاد حبل المشنقة في عنقه يقول: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي الى ربك راضية مرضية} (سورة الفجر: آية 27،28).
لقد استجاب
ويقول شاعر القطرين خليل مطران:
أبيت والسيف يعلو الرأس تسليماً
وجدت بالروح جود الحر أن ضيما
لله ياعمر المختار حكمته
في ان تلاقي مالاقيت مظلوما
ان يقتلوك فما ان عجلوا أجلا
قد كان مذ كنت مقدوراً ومحتوما
ولقد رثاه الشعراء وتكلم في تأبينه الادباء والكتاب ولو تتبعنا ذلك لوجدناها أكثر من مجلد.
ونختم استشهاد
ومن سيرة
ومفتاح شخصيته الفذة إنه آمن بالله واستقرت معانيه في قلبه فأصبح لايخشى إلا الله وهذا الصنف من المسلمين هو اقوى ماعرفته البشرية وهو الانسان الحر في أعلى معاني الحرية.
جرد قلبه من الاوهام ومن الشركيات والضلال ومن الشبهات والشهوات وخلص قلبه من كل ظلمة تحيل بينه وبين دخول التوحيد الصحيح إليه، كان كثير المراقبة لله، ومن هنا كان شديد الخوف من الله يعلم إنه شديد العقاب وخوفه من الله جعله اهلاً لتوفيق الله ولذلك كان راسخاً كالجبل الاشم.
فالفريد في سيرته ، إنه أحيا شيئاً كاد يندثر ، أحيا معاني الايمان التي كان الناس قد بدأوا ينصرفون عنها إنه بنيان اسس على التقوى فعاش مباركاً في حياته وفي مماته.
والعبرة الثانية ، إنه كان داعيا الى الله بإذنه ، تربى على ايدي دعاة السنوسية فلما اكتمل وترعرع ، ادى الرسالة وبلغ الامانة وأنذر وبشر، وخيركم من تعلم القرآن وعلمه.
والعبرة الاخرى، إنه كان على فهم صحيح لدينه، يأخذ كلاً لايتجزأ، فلا هو بالتدين المنحرف، ولا هو بالتدين البعيد عن جوهر الدين ، وإنما هو رجل مؤمن، يعلم ان الاسلام لايصح أن يؤخذ بعضه ويترك بعضه، وإنما عليه أن يعمل به كله.
وكان في حرارة الشباب وحيويتهم رغم شيخوخته وتلك طبيعية المقاتلين في سبيل الله، الذين يخشون الله ولايخشون أحداً غيره والعبرة الاخرى، انه لم يسع للشهرة ، لان المخلصين لايبحثون عن الشهرة وإنما يبحثون عن رضى الله سبحانه وتعالى.
ولذلك جعل الله له ذكراً في الدنيا ونسأل الله أن يتغمده برحمته في الآخرة إن اعداءه الاوروبيين اعجبتهم سيرته البطولية والكفاحية والجهادية فهذه صحيفة التايمز البريطانية في مقال نشرته في 17 سبتمبر سنة 1931م تحت عنوان نصر إيطالي: (حقق الايطاليون انتصاراً خطيراً ونجاحاً حاسماً في حملتهم على المتمردين السنوسيين في برقة، فلقد أسروا وأعدموا الرجل الرهيب
وقد وصفه أحد الإيطاليين قائلاً (كان
وقال آخر: كان انجازه رائعاً، فقد حارب إيطاليا الفاشستية تسع سنوات من حرب فدائية لم تكن ضعيفة في ذاتها وكان التحدي والتضحية والاستشهاد بالنفس عند
ونحن نقول:
ومليحة شهدت لها ضراتها والفضل ماشهدت به الأعداء
لقد كانت حياة
إن الشيخ الجليل
وهكذا يا أخي الكريم يصنع الإسلام من اتباعه في ميادين النزال وساحات القتال وكذلك عند الوقوف أمام الطغاة والجلاودة الظلمة، لأن العقيدة تحركه ورعاية الله تحفه وإن هذه الوقفات الخالدة من سيرة شيخ الجهاد في ليبيا لحري بنا أن نكتبها بحروف من ذهب ونعلمها للأجيال ونربي عليها الأشبال لغد مشرق مجيد قد بدأت بوادره تلوح في عنان السماء ومظاهرها متجسدة في رجوع شعوب المسلمين لدينها مع مايحف هذا الرجوع من مخاطر عديدة من قبل اليهود والنصارى والملاحدة والحكام الظلمة وأنى لهم أن يطفؤا
فما علينا إلا أن نستعين بالله في تحقيق وتطبيق دينه على نفوسنا وأسرنا ومن حولنا ثم على الناس أجمعين.
قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لايشركون بي شيئا} (سورة النور: آية55).
{ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} (سورة الحج، آية40).
{من كان يريد العزة فالله العزة جميعاً} (سورة فاطر، آية10).
آخر وثيقة من أحمد الشريف وصلت للمجاهدين في ليبيا:
وكانت آخر وثيقة أرسلها أحمد الشريف رداً على رسالة المجاهد الكبير يوسف بورحيل الذي تولى الأمر مؤقتاً بعد استشهاد
نص الرسالة التي بعث بها أحمد الشريف رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى
من عبد ربه سبحانه، خادم الإسلام، أحمد الشريف السنوسي،
إلى حضرة الفاضل المحترم، والجليل المفخم، المجاهد الصادق، واللبيب الحاذق، قائم مقام دور العواقير ولدنا الشيخ عبدالحميد العبار، وكافة أولادنا العواقير حفظهم الله ورعاهم وحرسهم وحماهم آمين آمين.
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ومغفرته ومرضاته وتحياته ورضوانه وعميم فضله وإحسانه، وبعد، فالمرجو من الله تعالى أن تكونوا جميعاً على أيسر الأحوال محفوظين بالله ومنصورين به وإننا لن نغفل عنكم وقت من الأوقات من الدعاء لكم عند
ايطاليا تحاول ان تستفيد بعد مقتل
يقول غراسياني عن
1- أن نعطي للثوار الاحساس بسخاء الدولة الايطالية الفاشيستية وكذلك للسكان المحليين.
2- افراد الحالة أمام العالم الاسلامي وغير الاسلامي بكل دقة وان تصرفاتنا لا لبس فيها فهي من اختصاصنا وكذلك من مسؤولياتنا في كل العمليات الحربية التي أجريت في برقة ولهذا فقد قامت طائرتنا بقذف المنشورات على المناطق الجبلية وعلى المدن والقرى وبها البيان الآتي:
الى ادوار
إن الرئيس العظيم رئيس الثوار
قال مترجم كتاب برقة الهادئة ابراهيم بن عامر عن هذا المنشور سبحان الله ياجنرال من الذي شرد الناس من أراضيهم؟ ومن الذي أفنى ثمانين ألف من المواطنين في المعتقلات ألم تكن أنت الذي قضى على الناس وأموالهم؟ وفي نفس الصفحة تعترف بأن
واستمر غراسياني في المنشور: ياأهل الدور إن الحكومة الايطالية الفاشيستية القوية والسخية تحذركم مرة اخرى إنه بعد وفاة واختفاء
أوجه الى قوات الجيش الشجاعة ببرقة أعظم الثناء وأحر تهنئتي على كل ماقاموا به من عمل مجيد وانتصار باهر في هذه الحروب والنتيجة المرضية التي كنا نتمناها أن نهاية
لاتوقف ولا ارتخاء واصلوا الزحف بكل حماس متجرد ولسوف نقضي على العصاة نهائياً.
انظروا اخواني الى هذا الحقد والبغض والكيد والمكر الذي ظهر من أفواهم وماتخفي صدورهم أكبر وصدق الله حيث قال: {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا....} (سورة البقرة، آية217).
تعيين يوسف بورحيل قائد للحركة الجهادية:
وبعد سقوط
واستقبل المجاهدون خبر استشهاد قائدهم العظيم بالعزيمة في الاستمرار ومواصلة للسير أما الشهادة أو النصر على النصارى الحاقدين.
وواصلت الحكومة الايطالية حملات الانتقام ضد أولئك الابطال وبرز في تلك المرحلة الحاسمة والتي ندر فيها وجود الرجال الشيوخ الفرسان والقادة الأبطال والميامين الكرام اجدادنا البواسل كل من عبدالحميد العبار ويوسف بورحيل وعصمان الشامي وحشدت ايطاليا قواتها وواصلت شن حملاتها بشراسة منقطعة النظير. وبعد قتال عنيف عند الحدود المصرية قرب الاسلاك الشائكة فاجتاز الاسلاك بعض المجاهدين ببطولة منقطعة النظير وفروسية عالية القياس وقتل من قتل واسر من اسر وبقي الزعماء الأربعة يقاومون فقتل حمد بوخيرا لله احد الزعماء وقتل يوسف بورحيل وجرح عصمان الشامي فأخذ أسيراً وأما الفارس المغوار عبدالحميد العبار فاستطاع ان يجتاز الاسلاك الشائكة بجواده رغم مطاردة القوات الايطالية له.
وبهذه النهاية المؤلمة الحزينة انكسرت شوكة المجاهدين وتعثرت خطواتهم واخمدت حركة الجهاد وذهب الاجداد تاركين خلفهم تاريخاً بطولياً كفاحياً جهادياً رائعاً من اجل العقيدة والدين والشرف والكرامة فعلى طريق الاسلام نحن سائرون ومن اجل اعزاز دين الله عاملون ورفع راية التوحيد مجاهدون ونسأل الله المغفرة والرحمة والرضوان للاجداد والابطال الكرام من أمثال رمضان السويحلي وسليمان الباروني والفضيل بوعمر واحمد الشريف السنوسي وصالح الاطيوش وابراهيم الفيل واحمد سيف النصر وسعدون وعبدالحميد العبار وغيرهم كثير.
إن عبدالحميد العبار قد امد الله في عمره وقد شاهدته مرات عديدة وأنا طفل لم اتجاوز الرابعة عشر وكنت أراه كل يوم بعد صلاة الفجر امام بيته في الحي الذي كنت أسكن فيه بمدينة بنغازي والذي يسمى مدينة الحدائق بقرب مسجد السيد بالقاسم احمد الشريف السنوسي المعروف بمسجد الأنصار وكان منظره وهو يتلو كتاب الله وقد تقدمت به السن مؤثراً في نفسي وبلادنا في تلك الفترة عمّها الفساد وماكنا نرى ونحن اطفالاً من يحافظ على تلاوة القرآن الكريم بالكيفية المذكورة وأخبرت والدي عن ذلك الذي اسر قلبي بتلاوته القرآن الكريم فقال لي يابني ذاك الشيخ عبدالحميد العبار من كبار المجاهدين وبدأت جدتي وهي من قبائل برقة من قبيلة الدرسة وقد كانت ضمن المعتقلين بمعتقل المقرون تسرد لي أموراً عجيبة عن جهاده وفروسيته وشجاعته ونجدته ولازالت صورته في ذهني الى وقت كتابتي هذه وعندما توفى رحمه الله كانت لوفاته مأتم مشهود وحضرت جموع غفيرة من شرق البلاد وغربها واستمر المأتم اياماً عديدة فرحمة
اضطهاد الشعب:
وباستشهاد
وعملوا على القضاء على الاخلاق الاسلامية وبث روح الكثلكة في المدارس بين الاطفال ، والقضاء على مصارف اهل البلاد والتعليم الديني واغلقوا الكتاتيب ودور العلم الوطنية وأكثروا من إقامة دور الفحش ومنعوا الليبيين من اداء فريضة الحج وازداد امتهانهم للدين الاسلامي بدرجة شنيعة فكان من اسوء فعالهم، إن القى قائد طبرق الايطالي بالمصحف الشريف الى الارض، ثم اخذ يطأ عليه بقدمه على مشهد من جماعة من المسلمين (إنكم معشر المسلمين لايمكن أن تصيروا بشراً مادام هذا الكتاب بين ايديكم).
وسخروا المسلمين واستعبدوهم في بناء الطرق والقلاع والمزارع والقرى ونشط المبشرون الطليان في دعوتهم، وعمدت الحكومة الى تشجيعهم وارغمت النساء على التنصير والزواج من الطليان.
وزاحموا أهالي البلاد في الصناعة والتجارة وسيطروا عليها سيطرة كاملة ومنعوا الناس من التظلم ، وقيدوا حرياتهم، فمنعوهم من محادثة بعضهم بعضاً، ومن قراءة الصحف والمجلات والكتب، ومن مراسلة اقاربهم في الخارج، حتى صاروا في سجن داخل بلادهم محرومين من كل صلة تربطهم بالعالم العربي والاسلامي.
لقد كان من احلام الفاشيست اعادة الامبراطورية الرومانية الغابرة فقرروا لذلك امتلاك البلدان الاسلامية القائمة على شواطئ البحر الابيض المتوسط، ثم ابادة أهل هذه البلاد وافنائهم وتحويلها الى رقعة لاتينية ، وانها لوقاحة منقطعة النظير ان يعمل شعب على ابادة شعوب ليحل محلها بالقوة ولكن هذا هو منطق الصليبيين الحاقدين وبلغ استهتارهم، أنهم ألزموا خطباء الجمعة بالدعاء على المنابر لملك ايطاليا، عم نويل الثالث، وعندئذ امتنع المسلمون عن صلاة الجمعة فلما هاج الرأي العام الاسلامي على هذا الفعل، استكتبوا الأئمة تكذيباً بتوقيعاتهم، جاء فيه ان الدعاء كان بمحض ارادتهم، ومن تلقاء أنفسهم ، ومن غير تدخل من جانب الحكومة الفاشيستية!!
فهل رأيت وقاحة ابلغ من هذه؟
وفي عهد بادوليو صاروا يمنعون الناس من اداء الحج ويضعون العراقيل في سبيلهم، حتى يجبروا على تركه.
كان اقبح مافعل المارشال بادوليو إنه امر بأن ترصف (الصالة) في قصره بالبلاط المنقوش عليه (محمد) وبعد انتهاء مرحلة الحرب المسلحة كما علمنا نفذ الشطر الثاني من برنامج إبادة الليبيين وإفنائهم، ونعني ذلك ما أغتصبه الطليان من الاراضي والمزارع وإعطائها للعائلات الفاشيستية بالقوة، وترك اصحاب الارض الحقيقين وابناء البلاد يتضورون جوعاً ويخدمون هؤلاء الحاقدين كخدماً وعبيداً.
واراد الله ان ينتقم للمجاهدين من الطليان بقدرته وجبروته وعزته وحكمته النافذة التي لا يعلمها كثير من عباده وبعد أن اطمأن النصارى الكاثوليك في ليبيا جاءت الحرب العالمية الثانية قدراً من الله وتسليطاً من الله من ظالم على ظالم {وكذلك نولى بعض الظالمين بعضاً بما كانوا يكسبون} (سورة الانعام، آية129).
وبعد أن اطمأنت الامبراطورية الايطالية الى سلطانها، ودانت لها الاقطار الليبية من اقصاها الى أقصاها من بعد استشهاد المختار عام 1931م حتى عام 1942م.
احد عشر عاماً من اليأس المطلق الذي لايبشر بشيء من الامل، أهل الحل والعقد الليبيين بعيدين عن البلاد.
نصف الشعب او يزيد اهلكوا، او اخرجوا من ديارهم ظلماً وعدواناً البقية الباقية مستضعفة في بلادها لا حول ولا قوة بها.
غراسياني ينفخ اوداجه، ويختال على ارض المسلمين يمنة ويسرة حيث شاء
ثم جاء من ورائه بادوليو الماريشال العجوز ليتم قصة ابادة الشعب الليبي ويسلم الاراضي الى رعاع الطليان.
ليل هنا وليل هناك وظلام دامس وظلم مخيم ويأس مرير وذلة اصابت المسلمين وعزة زائفة سيطرت على النصارى الحاقدين وكانت قصة خروج الطليان من بلادنا غريبة جداً ينبغي أن يتدبر فيها ليعلم الناس وليطمئنوا الى عدل الله المنتقم الجبار ولو بعد حين وكانت قصة هزيمة ايطاليا في ليبيا بدأت في الحرب الثانية في سبتمبر وحرصت ايطاليا أول الامر على عدم دخولها حتى اذا رأت فرنسا تنهار على أثر الزحف الالماني الخاطف عليها أعلنت ايطاليا الحرب على انكلترا وفرنسا في 10 يوليو 1940م وبدأ الجبل الاخضر يضيق حول عنق الامبراطورية الجوفاء العرجاء ودخلت ايطاليا الحرب بقيادة زعيمها موسوليني الطبل الاجوف طمعاً في الغنائم ، وكانت توقن ان الارض قد دانت لحليفتها ألمانيا فأخلف الله ظنها وافضى الامر الى زوالها نهائياً من الوجود كامبراطورية صاحبة مستعمرات واندحرت ايطاليا باندحار المانيا في شمال افريقيا، ولم تغرب شمس يوم 7 ابريل عام 1943م حتى كانت جيوش المانيا وايطاليا بقيادة رومل المنهزمة قد اخلت القطر الطرابلسي بأجمعه.
وكانت فرحة عظيمة شاملة عمت قلوب الناس وعبر عنها الملك السابق بقوله: (إني احمد الله الذي جعلني أشهد خروج هؤلاء الطليان الظالمين من بلادنا) وتدفق الليبيون الى بلادهم التي ترعوعوا فيها وأُخرجوا منها ظلماً وزوراً وهكذا استدار الزمان وسلط الله الانكليز على الطليان ونزل العار بهم .
لقد ارادت إيطاليا إبادة المسلمين في ليبيا فبادوا هم وبقي المسلمون في ليبيا واراد غرسياني إعدام المختار فهلك وبقي المختار علماً وقدوة لأجيال المسلمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق